علي الصراف
الاتفاق النووي الإيراني الذي تم إنجاز انطلاقته الأولى سراً، ما يزال ينضح أسراراً أخرى، أحدثها ماكشف عنه «معهد العلوم والأمن الدولي» في واشنطن الذي قال في تقرير حديث له «إن الولايات المتحدة وشركاءها في التفاوض اتفقوا سراً على السماح لإيران بالالتفاف على بعض القيود في الاتفاق».
طبعا، تم نفي التقرير، ولكن سيكون من فرط السذاجة الاعتقاد بأن هذا هو السر الأخير. فثمة من الدلائل والمؤشرات ما يكفي للاعتقاد بأن إيران حصلت على ضوء أخضر يسمح لها بالمزيد من التدخلات في شؤون الدول المجاورة، والمزيد من أعمال تغذية المشروع الطائفي، وذلك من أجل المزيد من تشجيع الإرهاب، بل وربما الاستعداد لشن أعمال عدوانية أوسع نطاقا من كل ما رأيناه.
والدليل بسيط لمن يرغب أن يراه، وهو أن هذه التدخلات تستمر، والمشروع الطائفي يرفع رايات عالية في العراق وسوريا، والإرهاب قائم.
المشكلة في السياسات الامريكية هي أن التضليل أصبح جزءا من طبيعتها. والمسؤولون الإيرانيون يعرفون هذا. ويعاملون نظراءهم الأمريكيين على هذا الأساس، وعندما تتوفر مناسبات للحديث المباشر يكاد يقول أحدهما للآخر: «نحن نعرف بعضنا».
هذا هو الأساس في علاقة الغرام بين طهران وواشنطن. إنه بلغة الدبلوماسية «التعاون على أساس التفاهم المشترك». كلا الطرفين يعرف ما يريد، وكلا الطرفين يوفر للآخر «الثغرات» ليحقق ما يريد. أما في العلن فليس من المستبعد أن تبقى لغة العداء قائمة. وإذا رغبت من بالمزيد من البهارات على هذه الطبخة، فليس من المفاجئ أن تقوم البحرية الإيرانية في مضيق هرمز بـ»استفزازات»، لترد عليها البحرية الأمريكية باحتجاجات، بينما الوقائع الأخرى تُظهر شيئا آخر.
الولايات المتحدة تريد لإيران أن تصبح خطراً إقليمياً يهدد الجميع، باستثناء إسرائيل. وإيران تريد أن تجد في الولايات المتحدة حليفاً يوفر لها الفرص اللازمة للتحول إلى قوة إقليمية مؤثرة. وهذا ما لا يمكن لروسيا أن توفره، ولكن إيران والولايات المتحدة تريدان أن تحافظا في الوقت نفسه على مستوى من العداء الخطابي يسمح لكل منهما أن يصدر سياساته، أو أن يبيع سلعة الخوف والتهديد.
السياق كله يكشف عن هذه الحقيقة منذ العام 2003 حتى الآن.
على امتداد عقد كامل قبل ذلك، كان لا يمر أسبوع على العناوين الرئيسية للصحف الامريكية حتى تجد عنوانا يتحدث عن «ضربة» أمريكية محتملة لإيران. وتلك «الضربة» لم تأت أبدا، قبل أن نكتشف أنها كانت على رأس العراق بالتحالف الدفين الذي سمح للولايات المتحدة وإيران بتمزيق هذا البلد، والتخطيط لتمزيق باقي دول المنطقة على أساس مشروع يجمع بين الطائفية والإرهاب.
هذا المشروع هو «السر الأخير». إنه حجر الزاوية الذي يجعل من «التفاهم المشترك» غزلا في الخفاء، وعنتريات كلامية في العلن.
وفي النهاية، لا الولايات المتحدة تضرب الإرهاب فعلا، ولا إيران تخلت عن مشروعها الطائفي.
وهذا المشروع، بشقيه، لا يتحول الى حرب استنزاف لدول المنطقة إلا من أجل دفعها نحو وضع يجعلها رهينة للخوف والتهديد، لعرقلة مساعيها لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
لو لم يكن المشروع الذي يجمع بين الطائفية والإرهاب هو أساس العلاقة بين طهران وواشنطن، لما اندفعت القوات الامريكية في العراق إلى تغذية الأحقاد لتفتيت الكيان الاجتماعي العراقي، ولما مارست أبشع أعمال العنف ضد طرف دون آخر، ولما سمحت لعصابات ومليشيات طائفية بالاستيلاء على مقدرات هذا البلد، ولما عملت على جعل التمزيق يبدو وكأنه «نظرية» تقوم بتسويقها مراكز أبحاث و»مفكرون» يبيعون السطحية على أنها علم.
والدلائل كثيرة في كل مكان آخر، من التواطؤ الضمني في سوريا، إلى التواطؤ المكشوف في اليمن.
هل لا تملك الولايات المتحدة القدرة على ردع تدخلات إيران في شؤون المنطقة؟
هل لا تملك الولايات المتحدة القدرة على سحق الإرهاب في موضعه؟
هل لا تملك الولايات المتحدة القدرة على دحر المشروع الطائفي، بوصفه المنتج الأول للإرهاب؟
هل لا تملك الولايات المتحدة القدرة على إحقاق الحق في سوريا واليمن والعراق؟
هل لا تملك الولايات المتحدة القدرة على إحلال السلام في الشرق الأوسط ككل؟
بلى تملك. ولا يعوزها دعم ومناشدات كل دول المنطقة، كما لا تعوزها عذابات الملايين. لكنها لا تفعل.
السبب يكمن في أن تفاهمات «السر الأخير» لا تسمح بذلك.