د.فوزية أبو خالد
1
أشواق الحج
لعدة أعوام مضت كنت أحس بشوق جارف كلما اقترب موسم الحج لأن أكون من بين تلك الجموع المحظوظة الواقفة على جيل الرحمة، الملبية على صعيد عرفات الطاهر، غير أن تلبية دعوة الحج ولو كان أداء الفريضة مشروطاً بالاستطاعة، وإن كان المقصود الاستطاعة المالية فلا أظن في دين اليسر إلا أنها تشمل أنواعاً أخرى من الاستطاعة.
2
الحج في طفولتي
ومع أنني حججت عددا من المرات في طفولتي، أو بالأحرى رافقت أهلي في حجهم السنوي يوم كان الحج مجرد نية وسيارة ونيت وخيمة مطوية، خصوصا لمجاوري الحرم والمشاعر المقدسة من سكان جدة والطائف ومكة المكرمة, فلم أستطع قط أن أفطم جوارحي من حنين الحج كلما اقتربت بروق ذلك الموسم وسبقته طيوبه.
كان الحج في طفولتي يعني الحرية. فنتحرر نحن عشيرة الأطفال في أسرتي من أسوار البيوت إلى فضاء الرحاب المقدسة، نمشي حفاة على الرمضاء ونتبارى من يتحمل شواظ الرمل أكثر، نغمس شفاهنا العطشى في طاسات نحاس مترعة بماء زمزم، أو نمص أفواه «المطارات», نختبئ خلف « تيازير الخيام», نراكض حمام الحرم أو ننثر لها الحب.
في النهار نملأ عيوننا بدهشة تنوع البشر ولغاتهم وعاداتهم وتعابير وجوههم وحركات أيديهم، وكأننا أمام أكبر شاشة سينما لمئات النساء والرجال والأطفال في لقطة واحدة. أما في الليل فنسلم جفوننا للوسن لنواصل في الأحلام مشاهدة الحج كفعل إنساني مختلف عن إيقاع حياتنا اليومية المعتادة، وكلحظة حرية مثيرة للكثير من الأسئلة.
ومن تلك الأسئلة على ما أذكر سؤال: لماذا لاتغطي وجوهها النساء في أيام الحج، ولماذا لايلبس الثياب المحرمون من الرجال ولماذا لاننعم بهدوء الكبار ولطفهم طوال أيام السنة ماداموا قادرين على كل هذه المعاملة الأريحية في الحج؟!.
وأذكر أنني مرة من المرات سألت عمي محمد, السؤال الأخير فقال ببساطة لأن الشياطين مصفدة في المراجم. ولم ينس ذلك اليوم أن يصحبني معه يرحمه الله لرمي الجمرات لأرى المراجم بنفسي. كما كانت تثير شجني تراتيل التهليل الجماعي لدرجة أنني مرة بكيت من شدة تأثير ذلك الهديل على مشاعري، وربما لم أكن تجاوزت السابعة.
3
الحج لليافعة
أما حين أصبحت فتاة يافعة مفعمة بالتفتح على الحياة مفتونة بالفضول والقراءة فقد كان موسم الحج بالنسبة لي سفراً ذهنياً أكثر منه تجربة ميدانية مباشرة. فانشغلت بتلك الكتابات الشغوفة التي كتبت في رحلة الحج أو في حنينها بحبر القلب ودمع العين. كان بعض تلك الكتابات يحفر في تلك الطرقات الموحشة التي عبر تواريخ مختلفة كان يمشي فيها الحاج أعزل من ماء وزاد وأي عتاد ليبلغ مهوى الأفئدة على قدميه في عدة أعوام. وكان بعضها يحكي قصص قوافل الحجاج من عهد قوافل الإبل والبواخر إلى عهد قوافل السيارات والأساطيل الجوية، فالمنتهى المنشود عند أستار الكعبة وعلى تراب منى وعرفات يوحد بين شدادي الرحال أنى أتوا من مشارق الدنيا ومغاربها أومن شمال القارات إلى جنوبها.
ومن تلك الكتابات الحفرية كتاب (الطريق إلى مكة) للعالم النمساوي محمد أسد, وأشهر رحلات الحج التي جمع شملها العلامة حمد الجاسر ومجلدات المختار من رحلات الحجاز لمحمد الشريف، وكتاب رحلات الحج بأجزائه الثلاثة لأحمد محمد محمود. ومؤخراً الكتاب الذي فاز بجائزة جامعة برنيستون للبرفسور حمودة في كتابته الأنثرولولوجية عن رحلة الحج عام 2005م بما يشبه البوح الروائي في التقاط التفاصيل وفي التعبير عن اللامرئي واللامنطوق عادة من ملذات الجوارح وإجهاد الجسد في تجربة الحج.
4
الحج لهفة المهوى
وما كان لذلك الحبل المشيمي السري الذي يربط وجداني وعقلي بالحج إلا أن يؤجج أوار أشواقي موسما تلو الآخر للطواف محرمة بالكعبة وهي في هيبة إحرامها, وللاغتراف من زمزم وهي في فورة سخائها, ولأن انقطع مع الواحد الأحد في عرفة وهي في أوج موجانها بشتى ألوان البشر, ولأن أجمع الجمرات من مزدلفة وأبيت في منى سقفي السماء ولحافي الدعاء.
وكنت كلما خطوت بخيالي تلك المواطئ التي خالعت عزلة الصحراء ودخلت بجغرافيتها المتقشفة من أوسع بوابات التاريخ الشاهقة وهي بوابة رسالة التوحيد ورسالة المساواة والسلام للبشرية جمعاء، المس لمس اليد في الوقت الذي تزداد فيه غموضا تلك اللهفة التي لاتقدم مع الزمن في العلاقة بين الأفئدة وبين المهوى ولو حج الإنسان مئة حجة, فيما أخال. فالحج يجمع بين الفردانية الشعرية وبين السيسولوجيا العمرانية بين المشتهى الإنساني وبين السمو الرباني.
كانت ابتهالات التلبية من فجر يوم التروية بمنى إلى غسق التقاط الجمرات بمزدلفة وتهاليل التكبير والتسبيح من فجر اليوم الأول لعيد الأضحى إلى ما قبل غروب اليوم الثالث تشعل في داخلي مشاعر شفيفة دفينة ليس لها اسم آخر غير «شجن الحج» ذلك الشجن المتجذر في أعماق كل مسلم, منذ شجاعة تلك الشابة وهي تقف وحدها في عراء الوادي مع طفلها بيقين أن الله لن يضيعهما، إلى أن أذن سيدنا إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج. ومن اليوم الذي توج فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تمام الرسالة بخطبة الوداع على تراب هذه المشاعر المقدسة إلى يوم البعث يستمر اشتعال شجن الحج بلا انقطاع. فالحج التمام في النقص والتنوع في الأحادية والمساوة في اختلال موازين القوى بين البشر، والضمير في الغفلة والسلام للحرب.
فأي شجن غير «شجن الحج» ذلك الذي يستطيع أن يؤجج التوق للانعتاق من ضيق الرغائب إلى أفق المغفرة وإلى التحرر من الانكسارات البشرية بالتكريم الإلهي للإنسان حيث ليس له إلا ما سعى.
أي شجن لا يستيقظ في الوجدان ويخلب الخيال من مجرد التفكر في هذه المفردات الشعرية الآسرة لشعائر الحج وأبعادها المتعددة لإنتاج واقع جديد لحياة المسلم.
النية، الإحرام «التجرد من الزينة»، طواف القدوم، الوقوف عند ملتزم الكعبة المشرفة، قبلة الحجر الأسود، لمس الركن اليماني، شربة زمزم، كما فعلت هاجر أول مرة وابتلال صمامات القلب بمائه العذب، الإجهاش بالدعاء والانقطاع التعبوي عن الجموع وسط أكبر تجمع بشري على جبل عرفة، المسيرة إلى مزدلفة والمبيت في العراء على أرضها، العودة إلى منى في صباح التشريق والذوبان، في الجموع المتجهة إلى المرجم، التقصير، التحلل من الإحرام، الأضاحي، طواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة، تسارع ساعات الايام المتبقية من الحج ولياليها كبروق خاطفة في سنوات العمر ثم طواف الوداع.
في كل مفردة من مفردات هذه الشعائر طاقات شعرية وروحية لم يفجرها الشعر بعد ووحدهم الحجاج يعرفون رحيق مشتقاتها وحلاوة الصبر عليها.
كان ذهابنا إلى الحج من أعز كنوز الذاكرة التي لم أسمح للزمن بأن يجردني من كهرمانها وزمردها وياقوتها وجميع جواهرها الأخرى التي من ندرتها ليس بالأمكان إيجاد اسم لها مما يعرف من أسماء الحجارة الكريمة، فلما منَّ الله عليّ وعلى أسرتي بالعودة إلى الحج فوجئت بمدى تجدد وتوهج كنوز الذاكرة المرتبطة بهذه المناسبة العظيمة.
إان بهجة المهج وزهو الهامات بالرجوع إلى أرض معاد فوق احتمال الجسد النحيل لولا أن الله يمد الروح لاستيعاب مالا يسعنا من فرح وان الوداع لتلك المشاعر المقدسة لأقسى من أن تسقيه دموع العيون لولا أن الله يربط على القلوب بأمل العودة.
5
شفاء الحروب
في المراحل التي تتكالب فيها الحروب على الأوطان يصبح الحج حائط السلام الأخير لتحرير حياتنا الروحية من ذلك الخلط المريب بين السياسة وبين الدين, كالخلط المتعمد الذي أرتكبته دولة إيران الأثوقراطية الطائفية.
فمنع سبعين ألفاً من المواطنين الإيرانيين عن فضيلة الحج كان تدخلاً في حرية الشعب أي مظهر من مظاهر القمع التي يتعرض لها الشعب الإيراني على يد ذلك النظام. كما أن ذلك المنع كان شكل من أشكال الإبتزاز السياسي باستخدام الدين لتأجيج رذيلة حربها على شعوب المنطقة، كما في سوريا واليمن ولبنان, وإن كان ذلك موضوع آخر قد يفسد بفظاظته وآلامه المبرحة رومانسية المقال وروحانية الحج.
6
بواسل الحج
أما ما يستحق عوالم من البحث والكتابة فهي تلك الصفحات البيضاء التي فتحها الشباب السعودي جنوداً ومتطوعين وقيادات نساء ورجالاً في خدمة الحجاج، وفي إصرار جبار على أن يكون موسم هذا الحج 1437هـ 2016 م حالة من السلام التي ترد الاعتبار لكامل تراب المنطقة من مهانة الحروب وفظاعتها. فلتسلم تلك الروح الوطنية الأبية التي حولها الشباب إلى حالة ميدانية من حب الوطن والانحياز إلى السلام.