لا أحد يجادل في أن جميع العلوم بمختلف تخصصاتها العامة والدقيقة وُجدت لتطوير المعرفة الإنسانية بمختلف أنواعها التقنية والطبية والاجتماعية والإدارية. ولا أحد يجادل في أنه مر على التاريخ البشري علوم، لكنها على حساب ظهور علوم أفضل منها انقرضت. ولا أحد يجادل في أن التنافس بين العلوم أمر مستحق شريطة أن يكون باعث التنافس باعثًا شريفًا، والبحث عن الأفضل. إن هذه البديهيات التي لا يجادل فيها أحد أصبحت في عالم اليوم مشكوكًا فيها، وخصوصًا عند الباحثين والأكاديميين العرب.
تعالوا بنا نضرب أمثلة لمنافسات شريفة بين علوم مختلفة، تتحد في كونها تسعى لحل مشكلة معينة. هناك في باب علاج الأمراض العضوية ما هو واضح أنه يحتاج للأسلوب الجراحي، وهناك ما هو واضح أنه يحتاج للأسلوب الباطني - الدوائي، لكن المشكلة تقع في حالات مرضية معينة، يدعي كل فريق أنها من اختصاصه، ويحصل بها التنافس الشريف والمعقول بين الجراحين والباطنيين في إيجاد حل أفضل لعلاج مثل هذه الحالات. ومن العلوم أيضًا التي هي محل للتنافس تجد مدرستين في علم الصيدلة، الأولى هي علم الدواء Pharmacology، والأخرى هي علم العقاقير (النباتات الطبية) pharmacognosy، ولكل منهما أسلوبها، ولها إيجابياتها وسلبياتها. كذلك هناك تنافس بين الطب العام والطب البديل. ولقد أطلق أنصار الطب العام على أسلوبهم الطب المبني على البراهين evidence based medicine تمييزًا لهم بأنهم أقرب لأسلوب المنهج العلمي. كذا تجد على مستوى العلاجات النفسية التنافس بين أسلوب الطب النفسي الدوائي والعلاج النفسي المبني على الجلسات النفسية.
إنَّ كل ما سبق من تنافسات يأتي لأجل تطوير المعرفة، وفي الوقت ذاته فإن درجة التنافس تأتي في حيز التنافسات الشريفة، لكن ما هو غير معقول أن يتعصب أحد الطرفين لأسلوب علاجه لدرجة أنه يسفه الآخر، ويحتقره. والأدهى من ذلك لو طوَّر أحد الأطراف علاجًا فائق الدقة يقوم الآخر برفض أسلوبه والقدح فيه بشكل سفيه! وحالما لا يكون الدفاع عن علم ما ليس لأجل الوصول للمعرفة فإن هذا العلم يتحول إلى صنم ممجد، وليس خادمًا للمعرفة.
ونحن هنا لا ننصّب أنفسنا قضاة على مفرزات العلوم، وأيهما الأفضل والأدنى؛ فلكل أحد الحق في إبداء رأيه ونقده، لكن ليس هذا معناه أن تمتد رجله لينصّب نفسه وصيًّا على العلوم. وأعتقد جازمًا أن المنهج السليم هو قاعدة قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحكمة ضالة المؤمن، فأنَّى وجدها فهو أحق بها». فلو انتصرت موضة علمية ما على موضة أخرى بشكل أقرب للحسم فإن الحكمة اتباع ما هو منتصر. ولو جاءت موضة ثالثة وانتصرت على الثانية فإن الحكمة الأخذ بالموضة الثالثة.. فلسنا بمستعبدين بحكمة واحدة، كما أننا لسنا ملزمين بالتعصب لعلم معين إذا تبيّن لنا جدوى علم آخر. وعلى هذا، فقد انقرضت علوم وحكم كانت معظّمة في وقت ما، ومعها انقرضت عشرات الآلات التي كانت تمثل في وقتها الحلول المثلى.
وبصفتي مختصًّا في علم النفس، فالعلاج الدوائي والعلاج النفسي لا يزالان في مرحلة حلبة التنافس، وجولة الحسم لم يحن وقتها بعد؛ فهناك في واقع الحال حالات يجزم الطب النفسي بأنها من اختصاصه، ويجزم العلاج النفسي بأنها من اختصاصه.. وأظن أن يومًا ما سيأتي يكون فيه كلمة الحسم لأحدهما أكثر تأكيدًا. فلو خرج علاج دوائي يعالج الاضطراب النفسي دون أي مضاعفات أو آثار جانبية فأهلاً بالعلاج الدوائي، ومبروك للطب النفسي، وحظ أوفر للعلاج النفسي والجلسات النفسية؟ وفي الوقت ذاته، لو خرجت خطط ميسرة للعلاج النفسي دون أدوية نفسية تشفي أي اضطراب نفسي بكفاءة وضمانة عالية فأهلاً بالعلاج النفسي، ووداعًا للطب النفسي، كما ودعت الإنسانية أساليب قديمة، حل محلها ما هو أضمن.
أخيرًا: إنني أفهم دور التكسب المادي في دفع فلان ما ليتعصب لتخصصه، لكنني لا أفهم أن يكون الدافع للتعصب هو تعظيم صنم التخصص العلمي.
- أكاديمي بجامعة الملك سعود