د.حامد الوردة الشراري
أذكر في إحدى ورش العمل حضرتها في بداية العقد الماضي في أمريكا، أن الرهبة من المارد أو التنين الصيني القادم اقتصادياً كان مخيماً على نقاشات تلك الورشة، وقد سبق أن تطرقت للاستفادة من دول الشرق في مجال التقنية وتوطينها بمقال مكون من جزءين نُشر في صحيفة الرياض في العددين (13668 و 13675) بعنوان «أما آن للمركب أن يبحر شرقاً لجلب التقنية غرباً؟!». ما جعلني أستذكرهما هو ما نشاهده من جهود نوعية وحراك خارجي جاد، يقوم به الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد وزير الدفاع، بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - أطال الله عمره - الذي هو استمرار في نهج المملكة السياسي والاقتصادي المتزن، وما تحظى به من أهمية وتأثير على المستوى الدولي، حاملاً معه رؤية المملكة 2030 بقوة وحيوية وطموح الشباب، ولتأصيل علاقة مع حليف استراتيجي ( أمريكا - غرباً) وبناء علاقة رصينة مع حليف مستقبلي (الصين - شرقاً) من أجل تعزيز الاقتصاد الوطني وتنويعه.
فبعد الإعلان عن الرؤية - أكبر مشروع استراتيجي وطني للتحول الاقتصادي - قام الأمير محمد بن سلمان يرافقه وفد ضخم وعالي المستوى، بزيارة مهمة وطويلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التقى فيها كبار المسؤولين ورؤساء الشركات الكبرى الأمريكية، من ضمنها زيارة هامة جداً لوادي السليكون الأشهر في صناعة التقنية، والذي يعتبر قلب العالم النابض للصناعات التقنية المتقدمة. خلال تلك الزيارة - التي تحدث عن أهميتها الإعلام الغربي وما تضمنته من ملفات مختلفة - تم بحث العديد من الملفات الحيوية والاتفاقيات والشراكات السياسية والاقتصادية، منها سبق أن اتفق عليها عند زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان للولايات المتحدة الأمريكية، وتهدف لتعزيز هذه الرؤية واستقطاب الاستثمارات لتفعيلها، منها جذب الاستثمارات في مجال التقنيات المتقدمة، ألحقها - حفظه الله - بزيارة لفرنسا لتعزيز التعاون الاستراتيجي الثنائي بين البلدين الصديقين.
تلك الزيارات تبعها بزيارة للشرق (باكستان والصين واليابان) لا تقل عن أهمية الزيارة للغرب لكونها تمثل ثقلاً سياسياً واقتصادياً مؤثراً عالمياً، تخللها العديد من الاتفاقيات والتفاهمات المتنوعة مرتكزها الجانب الاقتصادي، وما يخدم توجُّه المملكة المستقبلي ويحقق رؤية المملكة 2030. زيارة الصين - ثاني أكبر اقتصاد في العالم - بوجه خاص، نتج عنها إنشاء لجنة مشتركة سعودية - صينية رفيعة المستوى وتوقيع 17 اتفاقية متنوعة لتعزيز وتعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، من ضمنها تعاون في مجال الصناعة والتعدين والتقنية وقرض تنموي للمساهمة في تشييد عدد من الكليات المهنية هناك. قد أرى - بحكم تخصصي - حصول شركة هواوي الضخمة - التنين الصيني العملاق - للاتصالات وتقنية المعلومات، على ترخيص تجاري للاستثمار بالمملكة بنسبة ملكية 100% من أهم الثمرات السريعة لهذه الاتفاقيات، لتقديم حلول تقنية لدعم رؤية المملكة وبرنامج التحول الوطني، وتعهدها بإنشاء مركز للابتكارات وتدريب شباب سعوديين والاعتماد على المنتجات الوطنية في صناعاتها. وقد أنهى - حفظه الله - هذه الزيارات بالمشاركة وترؤس وفد المملكة في اجتماع دول مجموعة العشرين الاقتصادية الدوري الذي يمثل قناة اتصال بين كبار صنّاع السياسة الاقتصادية العالمية.
في هذا الحدث العالمي لفت انتباهي حديث الرئيس الصيني في كلمته التي ألقاها أمام منتدى أعمال مجموعة العشرين في مدينة هانغجو شرق الصين، قبل اجتماع المجموعة حول التقنية، حيث ذكر: «.... يجب أن تغتنم الدول هذه الفرصة التاريخية التي يقدمها الابتكار والثورة العلمية والتكنولوجية الجديدة والتحول الصناعي والاقتصاد الرقمي، لزيادة قدرة النمو متوسطة وقصيرة المدى للاقتصاد العالمي ...»
لاشك أن النشاط الكبير الذي يقوم به الأمير محمد بن سلمان المتمثل بتلك الزيارات، منها زيارة وادي السيلكون والاتفاق مع بعض الشركات التقنية للاستثمار وجذب التقنيات المتقدمة للمملكة، وكذلك منح رخصة استثمار للشركة العملاقة التقنية الصينية (هواوي)، وقرارات مجلس الوزراء الموقر المتتالية التي تهدف لتنمية الاقتصاد وتنويعه، منها القرار الأخير بخصوص إنشاء صندوق الصناديق ورصد له مبلغ 4 مليارات ريال لتمويله، والاستثمار بالتقنيات الواعدة وعالية المخاطر، هو مؤشر قوي بأن الحكومة مدركة وماضية قدماً بأنّ التقنيات الحديثة والواعدة والاستثمار فيها وتوطينها، هو أحد المرتكزات الرئيسية للرؤية 2030 وللاقتصاد الوطني مستقبلاً. فالتقنيات الحديثة تغير وجه العالم اقتصادياً واجتماعياً بشكل متسارع، وتحقق إيرادات عالية جداً قد تتجاوز إيرادات دخل بعض الدول، والتوسع في استخدام التقنية وتطويرها وامتلاكها تتنافس عليها الدول وتسن لها القوانين الصارمة، وتعقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لملكيتها الفكرية وحمايتها والاحتفاظ بها.
هذه الجهود الخارجية المباركة والمثمرة التي تقوم بها الحكومة ممثلة بعرابها الأمير محمد بن سلمان، في اختزال الزمن للإنجاز، تستلزم جهوداً داخلية متوافقة ومتضافرة مع تلك الجهود، من خلال إيجاد بيئات تمكينيه محفزة ومرنة تساهم في حصول المملكة على التقنيات الحديثة وتوطينها وتفعيل واستثمار تلك الاتفاقيات مع الدول المتقدمة على أكمل وجه، لنقطف ما تصبو إليه قيادتنا الرشيدة .. والله من وراء القصد...