د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تحكي لي إحدى القريبات أنَّ أكاديميةً إيطالية زارت قسم التربية الفنية بجامعة الملك سعود، لتلقي عليهم محاضَرةً عن الفن في (إيطاليا)، وحين بدأتْ بالحديث تفاجأتْ بأنَّ الطالبات يعرفنَ عن فنِّ بلادها وتاريخه ما لم تكن تتوقعه، إلى درجةٍ أنها تأثَّرت كثيراً حدَّ البكاء حين بدأتْ تتحدثُ إحداهنَّ بالتفصيل عن أحد المسارات الفنية في إيطاليا، بل إنَّ قريبتي تؤكد أنَّ الملل بدأ يصيبها وزميلاتها، كون الأستاذة الإيطالية لم تأتِ بجديد، فكلُّ المعلومات التي ذكرتْها سبق أن درستها الطالبات بإسهابٍ في المقررات الدراسية الخاصة بالقسم.
أصابتني الدهشة وأنا أصغي لهذه الحكاية، وتلبَّستني الحيرة وأنا أتابع تفاصيل هذا الموقف، إذ ليست المشكلة في أنَّ الطالبات يعرفنَ تاريخ الفنِّ الإيطالي كما يعرفه أصحابه وربما أكثر، بل المشكلة الكبرى حين عرفتُ أنَّ الخطة الدراسية في القسم بعيدةٌ عن الاهتمام بالفنون الإسلامية وتاريخها العريق، في الوقت الذي تعتني فيه عنايةً فائقةً بغيرها من الفنون، وتحتفي بها، وتفرد لها المقررات والبحوث والدراسات والدورات.
وأظنُّ أنَّ هذا الإهمال راجعٌ إلى سببين؛ الأول: الانهزامية الفنية والحضارية التي يعاني منها أصحاب تلك الخطة الدراسية، وانعدام الثقة بالنفس، والنظر إلى الآخر دائماً بعين الإكبار والإجلال، الثاني: الجهل بقيمة الفنون الإسلامية، وغياب الوعي عن أهميتها التاريخية والحضارية، وعدم استيعاب حجم تأثيرها في الفنون الأخرى، وإلا فكيف يعقل أن يتخرَّج طلابنا وهم يعرفون عن الفنِّ الإيطالي والفرنسي والهولندي والإنجليزي أكثر مما يعرفون عن الفنِّ الإسلامي الذي يمتدُّ من أقاصي الهند شرقا إلى آخر بقعةٍ من بلاد الأندلس!
أعترف أني لستُ متخصصاً في الفنون الإسلامية، لكني أزعم أنَّ أدنى مثقَّفٍ يدرك تماماً أهميتها في الحضارات المختلفة، ويعي تأثيرها في مختلف الثقافات، ولهذا ينبغي على مثل هذه الأقسام أن تهتم بها، وأن تعطيها حقَّها من العناية الأكاديمية، أقول هذا من جهةٍ علميةٍ ومنهجيةٍ بعيداً عن العاطفة العربية والانتماء الإسلامي، بل إني أقترح أن تخصِّص الجامعات أقساماً علميةً للفنِّ الإسلامي، يُدرس فيها تاريخ الفن الإسلامي على مر العصور، وتُضاء من خلالها جماليات الزخارف الإسلامية، ويُكشف بواسطتها عن روائع فنون العمارة الإسلامية التي ما زلنا نرى آثارها عياناً في كثير من الدول الغربية، وغير ذلك من العلوم التي من شأنها أن تجعل الطلاب يفتخرون بحضارتهم، ويعتزون بدينهم، ويشكرون لوطنهم أن أضاء لهم جانباً مهماً من تاريخهم العريق. وليت الإهمال طال الفنون الإسلامية فقط، بل طال أيضاً الفنون الشعبية والمحلية، إذ لا تكاد تجد مفردةً من مفردات المناهج -فضلاً عن مقرر خاص- يولي اهتماماً بها، ويكشف للدارسين عن الفنون التي تشتهر بها كل منطقة من مناطق وطننا الحبيب، وقد حاولتُ أن أجد أسباباً لهذا الإهمال فلم أجد غير ما ذكرته آنفا، من جهلٍ وانهزامية. إنني لا أقلل أبداً من قيمة الفنون في البلاد الأخرى، إذ لا يجهل أحد ما للفنون في البلاد الأوروبية من أهميةٍ ومكانةٍ على المستوى العالمي، غير أنَّ هذا لا يعني أن تُهمِّش أقسامنا العلمية الفنَّ الإسلامي الذي كان مؤثراً رئيساً في تلك الفنون، كما أنه من المخجل أيضاً أن تغفل هذه الأقسام عن فنوننا الشعبية المحلية والعناية بالتعريف بها ودراستها، فهذا الجيل بحاجة إلى هذه المعرفة القيمة التي من شأنها أن تنمي انتماءه الإسلامي والعربي وقبل ذلك الوطني، في عصر مفتوح يعج بالفتن والمتغيرات.
إنَّ أي حضارة لا يمكن أن تبرز إلا بفنونها، ومن المعيب أن تغفل أقسامنا العلمية المتخصصة عن إبراز حضارتنا الفنية الإسلامية والمحلية الوطنية في وقت تحتفي بغيرها من الحضارات، وإذا لم يكن تعريف الدارسين بحضارتنا وفنوننا هدفاً استراتيجياً من أهداف هذه الأقسام.. فبلغوها السلام!