بدأ المثقف بسلطته على المجتمع و مناكفته مع السياسي منذ أن سُكّ هذا المصطلح و أضحى له مفهومًا ينطلق من علاقته بالسياسي كمنافس له على المجتمع ، و صار المثقف (العضوي و التنويري و الليبرالي و الحداثي و الديني ) يمارس وصايته على المجتمع باعتماد المعرفة كسلطة يستقوي بها على الجميع، و قد كانت هاته المعرفة التي يستقوي بها المثقف حكرًا عليه لصعوبة حصول المجتمع عليها؛ فحوّرها المثقف سوطًا يخيف بها المجتمع و يناكف بها السياسي. و قد بدأت هاته السلطوية من المثقف على مجتمعه منذ عصر الأيديولوجيات التي انغمس فيها المثقف بفكرانيته حتى جعلته خادمًا لها ولو على حساب مجتمعه الذي يزعم خلاصَه ؛ و سلّم المجتمع أمره للمثقف لأنه فاقدٌ لسلطة المعرفة و ضعيف أمام بطش السياسي.
و أخذت هاته السلطوية مأخذها الجدّي مع منظّر البنية الفوقية للأيديولوجيا الماركسية انطونيو غرامشي حينما كرّس جهده الفكري لاستحداث (المثقف العضوي) كمناضل فاعل في الحزب الماركسي المنتمي للطبقة البرجوازية الصغرى ؛ وإعطائه قوة سوسيوثقافية يلهب بها مشاعر الجماهير و ينظّم بها صفوف حزبه الماركسي لتتم لهم الهيمنة على السياسة و من ثم على المجتمع . و قد كرّس هاته السلطوية إدوارد سعيد المغذي لنظرية غرامشي (المثقف العضوي) و المستحدث ل (المثقف الحقيقي) المقابل لـ(المثقف الاحترافي) باعتبار الثنائية ضدية؛ يعمل الأول لأجل المجتمع و لإعادة الهامش إلى المتن و لمناصرة الضعيف في المجتمع أمام القوي الباطش. و تمتد هذه السلطوية حتى تشمل (المثقف الليبرالي التنويري) الذي يريد إنارة عقول المجتمع و إخراجهم من ضلالاتهم إلى نوره الذي يؤمن به ؛ حتى و إن كانت إنارتهم تستوجب قتلهم بالقنابل الذرية -كما رحّب بها فوكوياما- .
فلما جاء عصر التفكيك و التشتيت و عصر ما بعد الأيديولوجيا و ما بعد الحداثة افتقد المثقف لجزء كبير من سلطويته التي كان يتمتع بها وانحسر عنه الكم الهائل من المهابة التي كان يُلبسه المجتمع إياها فوقع في شر أفعاله الوثوقية التي لم يكن يؤمن بغيرها و تفتت عنه الهالة المعرفية التي كان يرتكز عليها ، وكان لنقد الحداثة اليد الطولى لإزالة سلطة المثقف -كما نراه عند آلان تورين وغيره من نقاد الحداثة- ، وتمكن التفكيكيون أمثال ميشيل فوكو الذي يؤمن بالمثقف الخصوصي بديلًا عن المثقف الكوني و العمومي المتمثل في الماركسي ؛ و أمثال علي حرب الذي يؤمن بالمثقف الوسيط كبديل لأوهام النخبة التي كانوا يرتكزون عليها ؛ و عبدالإله بلقزيز الذي آمن بالمثقف النقدي كبديل للمثقف الداعية المنغمس في أفكاره عن بحبوحة الفكر و المعرفة ، ومنذ هذه المرحلة الفكرية و المثقف يمور في حالة نقدية لم تنفك عنه بل ازدادت قوة وتدميرًا مع اكتشاف التقنية و تطور مواقع التواصل الاجتماعي التي أخذت من المثقف سلطته التي اعتمد عليها (المعلومة و المعرفة) و أعطتها لكل إنسان يحسن التعامل معها و يكرر الالتقاء بها.
إن هاته المرحلة الآنيّة استطاعت أن تزحزح سلطة المثقف؛ و استطاعت أن تبقيه كما هو مثقف لكنه عديم السلطة أو قليل السلطة يعيش في أحايين كثيرة على ما تعطيه إياه التقنية من معلومات و معارف ليعيد إنتاجها للمجتمع بغير فاعلية سلطوية كما كان في مراحل سالفة . و صار المجتمع فاعلًا ثقافيًا بعدما كان متلقيًا يقف أمام المثقف تلميذًا ينتظر إملاءاته ؛ فتحولت سلطة المثقف إلى سلطة سوسيوثقافية يملك المجتمع زمامها ؛ علمًا أن سلطة المجتمع هاته ليست هي الجماهيرية الرعناء التي ترشد إلى الفوضوية لأن الفارق بيّنٌ يكمن في الامتلاك المعرفي الذي يوازي بين الجماهيرية و السلطة السوسيوثقافية ، و تحول الحديث الراهن عن المثقف من الانعزالية و النخبوية إلى السقوط أو إلى اللاسلطوية ؛ وذلك بعدما كانت ثنائية المثقف المنعزل و المثقف الحاضر في مجتمعه مسيطرة على خطاب المثقفين و على النقد الموجه لهم ، فكان المثقف ينقد أخاه المثقف عبر ثنائية الانعزال و الحضور في دوامة المجتمع فتحول النقد إلى المثقف ذاته و إلى أفكاره التي يؤمن بها فهو تحول من الخارج إلى الداخل ؛ من سلطة المعرفة على المجتمع إلى المعرفة ذاتها.
و إن ما بين موت المثقف وسلطويته تكمن زحزحة سلطته و تذويبها بل وانصهارها في أحايين كثيرة ، لذا فإننا لا يمكن أن نقر بموت المثقف كانتهاء كينوني أو معرفي ؛ وذلك للارتباط المفاهيمي بين المثقف و المعرفة ؛ و خصوصًا أن المعرفة لازمة بوجود الإنسان ؛ لكننا نستطيع بما يمليه علينا الواقع الفكري و التقني أن نؤمن بترهل سلطة المثقف كسلطة معرفية يمارسها على المجتمع و يناكف بها السياسي؛ و لعل عبدالرحمن منيف لم يبعد النجعة عندما رفض فكرة موت المثقف في مجتمعاتنا العربية لانعدام البديل عنها من مؤسسات المجتمع المدني ؛ بيْد أن منيف و غيره من المفكرين لا يزالون يحاولون إعادة سلطة المثقف المسلوبة منه لكن دون جدوى.
- صالح بن سالم
_ssaleh_@