ومن الصور التي درج استعمالها في الخطاب النقدي القديم الصورةُ الذوقية؛ فقد كان توظيفها قارّاً في النقد في مواضع متماثلة.
وبما أن فاعلية الصورة ليست في وضوحها، بقدر صفتها كحادث ذهني له ارتباط خاص بالإحساس؛ فإنني أجد في الخطاب النقدي وصفاً لبعض الأبيات أو القصائد بصور ذوقية، من ذلك ما روي «عن حماد الراوية: أنه سئل عن شعر عمر بن أبي ربيعة فقال: ذاك الفستق المقشَّر»، فهذا تشبيه يوحي بلذاذة شعر عمر بن أبي ربيعة عند حماد، وسهولته، فهو كالفستق المقشّر، الذي يلتذّ به آكله بدون أن يجهد نفسه في تقشيره.
وقولُ بعض الأعراب، وقد سئل عن كلام أحد البلغاء: «لو كان كلام يؤتدم به؛ لكان هذا الكلام مما يؤتدم به»، فإن لذة الكلام شابهت عنده لذة الإدام. وهذا القول يصدق على ما نقله أبو حيان التوحيدي أنه «ذكر أعرابي قوماً فقال: الناس أشجار، وكلامهم ثمار».
والصورة الذوقية شائعة في نقد ابن المعتز أكثر من سائر النقاد بحسب اطلاعي، وإذا تأملنا نمط حياة الترف التي عاشها ابن المعتز؛ وجدنا أن أصناف الطعام التي ترد في سياق نقده ليست متاحة لكل أحد، ومن ذلك قوله: «وقد صارت أبيات من هذه القصيدة فاكهةَ أهل الأدب»، كما وصف أبياتاً بأنها «أسلس من الماء، وأحلى من الشهد»، بل إنه وهو يستمد الصورة من الماء يقيّد الماء بوصف الزلال، والبارد، وذلك في قوله عن شعر أبي العتاهية: «ولهذا الشعر من قلوب النساء موقع الزلال البارد من الظمآن لرقته»، ويقول كذلك: «إنما ألفاظه كالعسل حلاوة».
ونحواً من هذا التشبيه يقول ابن طباطبا عن موقع الأشعار الحسنة في الفهم: «فهي تلائمه إذا وردت عليه -أعني الأشعار الحسنة للفهم- فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال»، إلا أن الماء يأخذ دلالة أخرى في نقد البحتري، «قال حكم بن يحيى: وأنشدته يوماً من شعر أبي سهل بن نوبخت، فجعل يحرك رأسه، فقلت له: ما تقول فيه؟ فقال: هو يشبه مضغ الماء، ليس له طعم، ولا معنى»، ولقد أحسن البحتري إلى المتلقي بذكر وجه الشبه؛ لأن تحريكه لرأسه مع المنشد، وتشبيهه لشعره بالماء يوحي بأنه طَرِبَ لهذا الشعر، فشبهه بالماء لسهولته، ولكن أفق الانتظار كان غير متوقع بعد أن ساق وجه الشبه.
غير أن الناقد قد يُغرب في الصورة الذوقية، على غرار ما نقله ابن قتيبة أنه «سمع أعرابيٌّ رجلاً يُنشِد شعراً لنفسه، فقال: كيف ترى؟ قال: سُكّر لا حلاوةَ له»، إنه تشبيه أقرب إلى الصور السوريالية، فهي صورة ذوقية لا محالة، ولكنها مما يشد انتباه المتلقي، فلم يمر به سكّر لا حلاوة له!
وإذا استثنينا الصورة الأخيرة «سكّر لا حلاوة له»؛ وجدنا أن سائر الصور الذوقية تدل على جمال الشعر أو جودة الكلام المنقود عامة، وتلذّذ السامع به.
- د. سعود بن سليمان اليوسف