أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: العقلُ الرياضِيُّ يُحقِّقُ ثلاثةَ مطالبَ كريمة: أوَّلُها الانتقالُ بالمجادِل من بديهة يسلِّم بها إلى البناء على بديهة أخرى يُسلِّم بها؛ وهكذا حتى ينتهي تسلِيمهُ ببديهة لم يتنبَّه إلى أنها الحُجَّةُ على ما شكَّ فيه؛ فهذا مِثلُ تَنَبُّهِهِ إلى عددٍ أسقطه في الجمع أو الضرب أو الطرح أو القسمة.. أو أضافَهُ؛ فاختلَّ عنده العددُ زيادةً أو نقصاً قبل تَنَبُّهِهِ.. وثانيها الإفادةُ من البرهان الْمُرَكَّب مِن خلالِ إجادَةِ تأليِفِه رياضياً.. وثالثها الحيلولةُ بين المشاغِب وبين شغبِهِ بابْتسارِ الأدلة، وطمْرِه تَسَلْسُلَها.
قال أبو عبدالرحمن: أصدقُ شيىءٍ على البرهان المركَّب: أنْ تستنبطَ الحكمَ على دعوى صحيحة من جزئياتِ نصوصٍ مجتمعةٍ؛ وكلُّ جزئيةٍ منها بديهيَّةٌ برهانية؛ فتتألَّفُ كلُّها؛ فتكونُ برهاناً واحداً مركباً كاستدلالك مثلاً على أنَّ عقوبةَ الله عدلٌ؛ لأنها تُوافِق ذنباً كبيراً؛ فليس ما فعله الله بقوم لوط عليه السلام بسبب فعلِهم الفاحشةِ الشنيعة جَزَاأً على الفاحِشَةِ وحْدها؛ بل ثبت بالبرهان الشرعي أنَّ رسولَ الله إليهم لوطاً عليه وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وبركاته: قد أظْهَرَ لهم بالبراهين العلمية ثبوتَ وجودِ الله بصفات الكمال، وثبوتَ البعثِ، وأنَّه رسولٌ مِن ربه، وبيَّنَ لهم فسادَ ما هم عليه مِن فواحشَ من ضمنها اللِّواط؛ فعاندوا الحق، وبغوا، ولم ينطقوا بحجة، وهمُّوا برسول الله أنْ يرجموه، وارتفع إعْذارُهم بالحجة من الله، والعنادِ منهم؛ فحصل من جميع هذه البراهين أنَّ هذه العقوبةَ العظيمةَ لمجموعِ ما هم عليه من كفرٍ وفواحش وعناد؛ ولا ذنبَ بعد الكُفْرِ؛ فلا تُقاس بعد ذلك عقوبةُ فاعِلِ اللواط على فعل اللهِ بقوم لوط؛ بل الحدُّ في ذلك الجلْدُ عَشْرُ ضرباتِ؛ إذْ حَدُّ ما لم يَرِدْ تعيينُه من الحدود (مثلُ حدِّ الزاني الْمُحْصَنِ، وحَدِّ القاذفِ) عَشَرةُ أسواطٍ لا غير.. وأما كثرةُ ظاهرةِ اللواط، وكثْرَةُ حدوث الاغْتصاب: فهذا حُكْمُهُ في أَصْلٍ شرعي صحيح؛ وهو الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ التي قد تقضي بالْقَتْلِ.. فإذا قَلَّتْ ظاهرةُ اللواط: فيكونُ الرجوعُ إلى عشْرِ ضربات.. وأما الاغتصابُ فيبقى حُكْمُهُ للمصالح المرسلة وإنْ قَلَّتْ ظاهرة الاغتضابِ سواءً أكانتْ العقوبةُ بمضاعَفَةِ الجلْدِ والسجن والتغريم أو القتل؛ وذلك راجع لاجتهاد القضاة الذين عَيَّنَهم الإمام لتحقيق الوقائع، وتقريرِ الحكمِ المناسب.. والإمام يُقِرُّ الحكمُ حسَب الأكثرية، أو حسَب من رَجَحَتْ كِفَّتُه في الورعِ وسعة العلم.. ومن ذلك رَفْعُ العذرِ عن القاتلِ عمداً بالحكم العادل فيه من القصاص؛ لتخطِّيه براهينَ إذا ضُمَّ إلى قتله النفس عمداً بغير حق: عُلم أنَّ شِدَّةَ وعيدِ الله: كان بسبب عِظَمِ جريمته، فقد نَهَى الشرعُ عن هَوْشَةِ الأسواق، وإشهارِ السلاح ولو كان مازحاً، وأوصى بالرحمة، وبالتقاضي في الحقوق، وبفضيلة الصفح وكظم الغيطِ، وعلَّمه ربُّه مَغِبَّةَ القتل عمداً بغير حقٍّ، وأنَّ ذلك ظمٌ وفساد؛ فظهر من مجموع هذه البراهين أنَّ فِعْلَ القاتِل أكبرُ أو مساوٍ لعقوبتِه مع علمِه بأن الله شديد العقاب، وأنَّه سبحانه وتعالى توعَّدَ القاتل عمداً بالخلود في النار إذا لم يُقَدِّم نفسه للقصاص، ويندم غاية الندم إنْ عُفِي عنه، ويُسارِعُ في فعل الخيرات، ويجرِّد نفسه لعبادةِ ربه والاستغفار والنفقة والقُرُبات والصدقات عن مقتوله.. على أنْ لا ينسى نصيبه من الحياة الدنيا.. وقد يُمضي الله فيه وَعْدَه الشرعيَّ بقضاءٍ كوني بفِتنةِ حياةٍ أو ممات، والحيُّ لا تُؤْمَنُ عليه الفتنة.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.
- عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-