تصوير - محمد المحترش:
تشارك العديد من الجهات والمنظمات العالمية المهتمة بالمحافظة على الحياة الفطرية بالعالم سنوياً في اليوم العالمي للتوعية بالنسور، والذي يوافق أول يوم سبت من شهر سبتمبر من كل عام والذي يوافق هذا العام الثالث من شهر سبتمبر، وتتركز فعالياتها بتقديم برامج توعوية للتعريف بأهمية النسور ولإبراز دورها في النظام البيئي وما تقدمه من خدمات مجانية للبشرية، وقد جاءت فكرة هذا اليوم من خلال الأيام التوعوية للنسور، والذي قام به برنامج الطيور الجوارح في جنوب إفريقيا وجمعية المحافظة على الباز البريطانية، حيث عملا معاً لتطوير هذا العمل ليصبح من أهم الفعاليات التي تقوم به الكثير من المنظمات في معظم قارات العالم، وذلك لما تواجه هذه الطيور من مخاطر عديدة معظمها من تأثير الإنسان حتى دخل بعض أنواع منها قائمة الأنواع المهددة بالانقراض، وأخرى تعدت ذلك لتدخل فيما يعرف بدوامة الإنقراض والذي يصعب إنقاذها ولتبدأ مع مرحلة إنقراضها معاناة أخرى للبشرية اقتصادية واجتماعية وبيئية.
تأثير تناقص النسور على الإنسان
صحيح أن الدراسات قليلة بهذا الشأن لكن ما حدث في القارة الهندية لهو درس للبشرية لما يحدث من جراء تناقص أعداد النسور، فقد قدرت أعدادها في التسعينيات من القرن الماضي بـ40 مليون نسر ليصل عددها عام 2003م إلى حوالي 10.000 نسر، فكان من جراء هذا التناقص زيادة حالات الفقر وكثرة العاطلين عن العمل بمناطق بالهند نتيجة اختفاء النسور، حيث كان سكان القرى الفقراء يستفيدون من النسور في تنظيف العظام بتغذيتها على الأنسجة لتبقي لهم العظام، والذي يجمعوه ويقومون بطحنه وبيعه مرة أخرى كبودرة كالسيوم تدخل في صناعة السماد العضوي للزراعة، وقد أدى موت النسور لمشاكل اجتماعية واقتصادية في القرى الفقيرة، والأعظم من ذلك أن اختفاء النسور أدى إلى مشاكل صحية، وذلك نتيجة إلى زيادة أعداد الكلاب الضالة والتي حلت مكان النسور للتغذي على الحيوانات النافقة مما زاد في أعداد الكلاب، فقد أشارت دراسة قدرت من خلالها أعداد الكلاب الضالة إلى سبعة ملايين كلب بين عامي 1992-2003م، وهذا الإرتفاع في أعدادها أدى إلى زيادة انتشار مرض داء الكلب بالمناطق الريفية حتى أصبح من أكثر الأمراض القاتلة بالهند بالسنوات الأخيرة، فزادت عدد الإصابات بعضات الكلاب، حيث وصلت حوالي 40 مليون إصابة وذلك بين عام 1992 - 2006م، وهذا بالطبع أدى لزيادة الإنفاق لتغطية المشكلات الصحية والاجتماعية وبالتالي زيادة الإنفاق لحل هذه المشكلات، وقد قدرت دراسة باحث هندي يدعى ماركانديا أن خسارة الحكومة الهندية بين عامي 1993-2006م نتيجة تدهور أعداد النسور إلى حوالي 34 بليون دولار سنوياً.
وهنا بالمملكة فقد أشارت دراسة حول محمية محازة الصيد (شرق مدينة الطائف) إلى أنه بالرغم من زيادة أعداد المواشي تسع مرات القدرة التحملية للمنطقة فإن النسور تقوم بالتخلص من 32 % من الحيوانات النافقة حول المحمية مما يساهم في التخلص من الأمراض المعدية نتيجة موت هذه الحيوانات.
إن ما حدث للنسور بالهند، دق ناقوس الخطر وجعل موضوع حمايتها يقرع بأروقة الاتفاقيات البيئية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ليصدر من خلالها قرارات في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإيقاف الخسائر الاقتصادية التي يمكن أن تحدث نتيجة لتدهور أعداد مجموعات النسور ليس بالقارة الهندية فحسب ولكن حول العالم، وعليه فقد أقرت الدول الأعضاء في اتفاقية الأنواع المهاجرة ومذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين إفريقيا وأيوروآسيا خلال العامين الماضيين البدأ بإعداد خطة عمل عالمية متعددة لأنواع النسور بالثلاث قارات القديمة؛ وأتمنى أن تكون للمملكة بمكانتها بالمنطقة والخبرات الموجودة بها أن تكون حاضرة ومشاركة في هذا الحدث العالمي الهام، خاصة أن النسور بالمملكة والشرق الأوسط تناقصت أعدادها بشكل كبير حتى دخل بعضها قائمة الأنواع المهددة بالانقراض على مستويين العالمي (يقصد به جميع مناطق انتشاره بالعالم) والإقليمي (ويقصد به منطقة الجزيرة العربية وبلاد الشام).
النسور في الأدب العربي
وكما للنسور دور في النظام البيئي فإن لها مكانةً في ثقافة العديد من الشعوب؛ فالهنود الحمر والمصريون القدماء قدسوها لطيرانها العجيب، فقد دلت الرسومات الموجودة في بعض المعابد المصرية على ذلك فصور النسور وخاصة النسر الأسمر لوحظ أنها تلاحق الجيوش للتغذي على جثث القتلى في أرض المعركة، وقد أورد العرب ذلك، فقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان أن النسور تتبع العسكر في الحروب وذلك لتغذيتها على جثث القتلى بالمعركة وأورد قول الشاعر:
وثُرْمُل تأوي إلى دَوْبَلٍ
وعسْكرٌ يتبعه النسرُ
لقد أحسن العرب في ذكر وضرب الأمثال بالنسور، فقد ذكر الجاحظ في كتابه الحيوان أن العرب عرفوا النسور وأنها من الطيور المعمرة وضربوا بها الأمثال: لوصف طول عمر الشخص بقولهم (عمرة عمر نسر)، ولازال هذا المثل يتداول حتى الآن عند أهل البادية.
كما ذكر النسر في الشعر العربي ومن أجمل ما قرأت ذكر النسر في الرثا فقد ذكر الجاحظ أن جنوب أخت عمرو ذي الكلب الهذلي رثت أخاها الذي مات بالمعركة والنسور تقترب منه كمشية العذارى قائلة:
تمشي النسور إليه وهي لاهية
مشي العذارى عليهن الجلابيب
وحتى الشعراء المعاصرون ذكروا النسور في أشعارهم فهذا جبران خليل جبران:
بغداد فاهبط أيها النسر
لا زينة اليوم ولا بشر
عدت بمن ضاق رحيب المدى
به ليستودعه قبر
فلتسترح من فرط ما جشمت..
من عزمه الأجنحة الغبر
ومن قصيدة أخرى للشاعر محمد إبراهيم أبو سنة:
النسورُ الطليقَةُ هائِمَة..
في الفضاءِ الرَّمادِي..
تَرْصُدُ مَوْقِعَها..
في أعَالِي الجبال..
إنها تتَذَكَّرُ شكلَ السُهُول..
بخُضْرَتِها..
بتَدَفُّقِ غُدرانِها..
أنواع النسور بالمملكة
سجل بالمملكة خمسة أنواع: من النسور منها أربعة تتكاثر بالمملكة وواحد مهاجر فالنوع الأول: نسر الأذون وهو من الطيور المعششة بالمملكة ويطلق عليه سكان بعض المناطق بالمملكة بالحيزاء، وإسمه باللغة الإنجليزية Lappet-faced Vulture، أما إسمه العلمي فهو (Torgos tracheliotus)، ويعتبر نسر الأذون النوع الوحيد من بين النسور المسجلة بالجزيرة العربية التي تبني أعشاشها على الأشجار، بخلاف الأنواع الأخرى والتي تضع بيضها على المنحدرات الجبلية، والمملكة تحوي أكبر أعداد لهذا النوع بين دول الانتشار لهذا النويع (التحت نوع)، حيث تشير الدراسات الحديثة بأن هذا النوع اختفى من معظم بلاد الشام وقلت أعداده في بعض المناطق بشرق الجزيرة العربية، وعليه فقد تم وضعه ضمن الأنواع المهددة بالانقراض على لائحة الاتحاد العالمي لصون الطبيعة، ونسر الأذون يعتبر من الأنواع القوية المنقار والذي يستطيع قطع جلد الحيوانات النافقة.
أما النوع الثاني: فيعرف بالنسر الأسمر أو نسر جريفون (Griffon Vulture) واسمه العلمي (Gyps fulvus) ويعشش هذا النوع من النسور في المنحدرات الجبلية على امتداد جبال السروات وجبال أجا وسلمى وجبال طويق، كما تصل منه أيضاً مجموعات مهاجرة من وسط آسيا وفلسطين والعراق، ويتميز النسر الأسمر برقبته الطويلة والتي تساعدة على إدخال رأسه داخل الجيفة ليحصل على الأنسجة الناعمة منها.
بالنسبة للنوع الثالث: والمعشش بالمملكة فهو الرخمة المصرية أو النسر المصري ويعرف محلياً عند البادية بالعليا وله اسم عربي القديم هو الأنوق ويسمى باللغة الإنجليزية Egyptian Vulture وعلمياً (Neophron percnopterus)، وقد سجلت منه مجموعات مهاجرة يصل بعضها للمملكة ليقضي الشتاء، ومنها من يمر عليها عبوراً خلال رحلتها للوصول لمناطقها الشتوية بإفريقيا.
والنوع الرابع: من هذه الأنواع المعششة يعرف بالنسر الملتحي ويسمى باللغة الإنجليزية Bearded Vulture أما الاسم العلمي فهو (Gypaetys barbatus) وقد تناقصت أعداده لكنه ليس مثل نسر الأذون فلم يدرج ضمن الأنواع المهددة بالإنقراض على مستوى العالم، أما على المستوى الإقليمي (منطقة شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام) فهو من الأنواع المهددة بالإنقراض بشكل حرج وربما اختفى من المملكة كطائر معشش حيث لم يسجل بالبرية منذ الثمانيات الميلادية من القرن الماضي. أما النوع الخامس: فيعرف بالنسر الأسود ويعرف باللغة الإنجليزية Cinereous Vulture أما الاسم العلمي (Aegypius monachus)، وهو من الطيور المهاجرة التي تصل للمملكة مع الهجرة الخريفية لتقضي فصل الشتاء.
أسباب انخفاض أعداد النسور
وللتعرف على مسببات نفوق النسور بالعالم أحب أن أبدأ بالمسبب لتناقص أعداد هذه الطيور بالقارة الهندية، والذي لفت انتباه العالم لهذه القضية، والناتجة من استخدام دواء للإنسان لعلاج الحيوانات حيث تشير الدراسات التي قام بها علماء أحياء وبياطرة بعد تحليل عينات كثيرة من النسور النافقة أن سبب النفوق يرجع إلى استخدم أصحاب المواشي لدواء يعمل على تخفيف آلام الماشية يعرف بالدايكلوفيناك (Diclophenac)، وعندما تموت هذه المواشي وتتغذى عليها هذه النسور تصاب بفشل كلوي وخلال شهر واحد تموت النسور، ولكن للأسف الشديد فبالرغم من معرفة الكثير من الدول بهذه المشكلة، فإن هذا الدواء بدأ يستخدم بيطرياً في بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا، وهناك معارضة قوية من قبل هذه المنظمات البيئية لمنعه حتى لا تتأثر النسور الأوروبية، والتي هي الأخرى اختفت من الكثير من مناطق انتشارها السابقة، وأرجو من الله العلي القدير أن ينظر لاستخدام الدواء بعلاج المواشي بالمملكة خاصة التي ترعى بالبرية حتى لا تتأثر نسور الوطن وحتى لا نحرم من جمال النظر لطيران النسور وتحليقها فوق سماء بلادنا الغالية.
ومن الأسباب الأخرى لنفوق النسور هو التسميم والذي يظهر تأثيره على النسور في معظم مناطق انتشارها ففي إفريقيا يقوم أصحاب المزارع الكبيرة لوضع السم للقضاء على الأسود والضباع فتأتي النسور لتأكل فتموت من هذه السموم، كما ظهرت في السنوات الأخيرة قيام بعض صيادي الفيلة ووحيد القرن المخالفين للأنظمة بقتل النسور عن طريق تسميم جيفة الجيونات المصيودة وذلك للقضاء على النسور، حيث إنها تكتشف موقع الجيفة بسرعة كبير مما يؤدي إلى استدلال حراس المحميات على موقع الجيفة ومن ثم التعرف على أدلة تدل على المخالفين لأنظمة الصيد.
وهنا بالمملكة فقد أشارت الدراسات العلمية التي قام باحثون من الهيئة السعودية للحياة الفطرية إلى نفوق أعداد كبيرة من النسور نتيجة التسميم، ولا يخفى على الجميع أن التسميم هو السبب في القضاء على خمسة من النمور العربية النادرة والتي عجزت كاميرات التصوير الحرارية والتي وضعها باحثين بمركز الأمير سعود الفيصل بالطائف في مناطق مختلفة على امتداد جبال السروات ولم تسجل أية فرد من النمر العربي بينما أدى التسميم للقضاء على أعداد منها بالرغم من ندرتها.
وهذا الموضوع أيضاً يفتح ملف قتل الحيوانات المفترسة والتي أظهرت الدراسات الحديثة بأن هناك علاقة بين الحيوانات المفترسة والنسور فوجود الحيوانات المفترسة كالضباع والذئاب والثعالب وحتى النمور تتساعد مع النسور في العثور على الحيوانات النافقة، فقد أشارت الدراسات العلمية بإفريقيا أن الضباع وابن آوى تستدل على الجيف من خلال متابعتها للنسور المحلقة، كما أن النسور تستدل على مواقع الجيفة التي قامت الحيوانات المفترسة باصطيادها، ناهيك أن الحيوانات المفترسة تساعد النسور في فتح الجلد خاصة للحيوانات الكبيرة كالجمال والتي تتطلب أحد الثدييات المفترسة لتمزيقها.
ومن المسببات الأخرى والتي أدت إلى تدهور أعداد النسور في المملكة ومناطق أخرى بالعالم رش المبيدات الحشرية، فالنسور بالرغم من قدرة معدتها على هضم أنسجة الحيوانات النافقة نتيجة أمراض بكتيرية أو فيروسية إلا أن المواد الكيميائية المستخدمة في القضاء على الحشرات تؤدي إلى نفوق أنواع من الطيور الجوارح ومنها النسور، وقد تم تسجيل حالات نفوق للنسور السمراء بالمملكة في مناطق رش المبيدات الخاصة بالجراد الصحراوي.
ومن المسببات الأخرى لتدهور أعداد النسور الإزعاج بمواقع التعشيش خاصة تلك التي تعشش فوق الأشجار مثل نسر الأذون والذي يعتبر أحد أنواع النسور المهددة بالانقراض، حيث تقدر أعداده في الجزيرة العربية بحوالي 600 زوج فقط معظمها موجودة بالمملكة العربية السعودية، فقد أشارت دراسات بالمملكة عن وجود عدد من الحصى الكبير بالعش وبين الأغصان والناتجة عن قذفها على النسور وهي بالعش مما يؤدي إلى تكسير البيض وقتل الفراخ، ولو علمنا أن النسور من الطيور المعمرة والتي تصل لسن البلوغ بأعمار من ثلاث سنوات كالرخمة المصرية وبعضها تصل لسن البلوغ وعمرها 11 سنة مثل نسر الأذون، كما أنها قليلة الإنتاج فهي تضع بيضة واحدة فقط وتستمر فترة حضانتها ورعايتها للفرخ بين 9-12 شهراً، وهذا يعني أن فترة التكاثر تستمر تقريباً لبعض الأنواع كنسر الأذون طيلة العام، وهذا بالطبع يحتاج لجهد كبير من قبل الأبويين، وعليه فإن الإزعاج يمكن أن يؤثر على تكاثر هذه الطيور وقلة إنتاجها مما يؤدي بالتالي لتناقص أعدادها.
أخيراً فإن من مسببات تدهور أعداد النسور أيضاً تصادمها وتكهربها مع خطوط الكهرباء ومراوح توليد الطاقة والتي تقضي على آلاف النسور بأوروبا وإفريقيا.
لقد أكدت الدراسات الحديثة على أهمية النسور بالنظام البيئي وما تقدمه من خدمات مجانية للبشرية، ومع ذلك فهي تتناقص في جميع مناطق انتشارها لتنذر بتأثيرات بيئية واقتصادية واجتماعية، حتى في المملكة فهي تتناقص بشكل ملف للنظر بالرغم أنها أحد المحاور التي يمكن الاعتماد عليها في السياحة البيئية والتي هي عنصر مهم في رؤية 2030 فهي مطلب للعديد من سياح الحياة الفطرية ومحبي مشاهدة الطيور خاصة نسر الأذون والذي يتواجد في عدد من المحميات فهل تنجح برامج حمايتها أم نقول: وداعاً للنسور..؟.
د. محمد بن يسلم شبراق - مستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية - عضو اللجنة العلمية لمذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين إفريقيا وأيوروآسيا - عميد شئون المكتبات بجامعة الطائف