الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
الحج المبرور مقصد عظيم من مقاصد الحج، وهو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وهو من علامة القبول بأن يرجع الإنسان خيراً مما كان ولا يعاود المعاصي.
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وأسرار الحج وحكمه لا يحس بها ولا يعرفها حق المعرفة إلا من أدّى حجه على الوجه الأكمل.
ولنتعرف أكثر عن كيفية تحقيق معاني الحج المبرور يتحدث لنا اثنان من المتخصصين في العلوم الشرعية عن ذلك.
رحلة عبودية
بدايةً يقول الدكتور عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء جعل الله البيت الحرام منسكًا لأمة محمد، قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [سورة الحج]، وفرض المولى سبحانه وتعالى- الحج على كل مسلم ومسلمة بحسب الاستطاعة والقدرة، قال سبحانه: (ولِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران:97]. وجاء في حديث نبينا محمد ذكر الحج ضمن أركان الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وحجِّ البيت، وصوم رمضان) رواه مسلم.
لذا جدير بأن لا يغيب عن ذهن الحجاج منذ عقد النية في أداء الحج؛ أنهم في رحلة عبودية تامة لله تعالى، قال تعالى: (الحَجُ أشهرٌ معلومات فَمَن فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوق ولا جِدَالَ فِي اْلحَجِ وَمَا تَفعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اْللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اْلزَّاد اْلتَّقْوَى وَاْتَّقُونِ يا أُوْلِى أْلأَلباَب) [سورة البقرة آية: 197].
ومن هنا يأتي مقام الحج المبرور بأن يبتعد الحاج عن كل ما يؤثر فيه من رفث، وفسوق، وجدال، وغير ذلك من نوازع النفس وشهواتها، ولنا في رسولنا القدوة الحسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- بقوله في خطبة حجة الوداع عن حرمة الخوض في الأعراض : (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ،كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا..).
فحري بالحجاج أن يعنوا أن يكون حجهم مبرورا، ومستشعرين العبادة بجميع جوانبها في الحج، ومدركين الغاية الكبرى لأعمال الحج في كل أحوالهم ونسكهم، وبهذا تتحقق المعاني الصحيحة للعبادة، والمقاصد العظمى للحج المبرور.
وقد بين الله تعالى أن المقصد من النسك كله هو: (ليذكروا اسم الله)، ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - : (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله).
إطعام الطعام
ويضيف د. الحسين أنّ من مظاهر الحج المبرور؛ تعظيم عبادة الحج بأن يكون الحاج معظمًا المعاني الإيمانية وهو يطوف بالبيت لا تغلبه روح الانتصار والمزاحمة والمصارعة.. وقد احتدم الزحام واصطك الحاج، وصارت رغبة النفس أن تسبق إلى غايتها الجديدة، وتفاخر الناس بذلك، فما يقطعونه في ساعات قد تحقق لي في دقائق وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام حين الدفع من عرفة: (السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس..) رواه أحمد.
ومن مظاهر الحج المبرور؛ إطعام الطعام، وكف اللسان عن الآثام، سئل سعيد بن جبير: أي الحج أفضل؟ قال: «من أطعم الطعام، وكف اللسان»، مشيراً إلى أنّ الحج نسك عظيم، هنيئاً للبررة الفائزين بما أعد المولى لهم من أجور عميمة، وكما قال رسول الله: (مَنْ حَجّ هَذَا البَيتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولمَ يَفسقْ رَجَعَ كيَوم وَلَدَته أُمُّه) رواه البخاري ومسلم.
البر والطاعة
ويستهل الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود بالرياض مشاركته بحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». وللعلماء أقوال في بيان المراد بالحج المبرور.
منها: أن الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم من البر وهو الطاعة، وهذا هو الأصح والأشهر.
ومنها: المقبول، ومن علامة القبول أن يرجع خيراً مما كان، ولا يعاود المعاصي.
ومعنى: ليس له جزاء إلا الجنة: أي أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لابد أن يدخل الجنة. والله أعلم.
ومنها: الحج المبرور فعل الطاعات كلها، والإتيان بأعمال البر، وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: (ليس الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكن الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فتضمنت الآية أن أنواع البر ستة أنواع، من استكملها فقد استكمل البر، أولها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة، وثانيها: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وثالثها: إقام الصلاة، ورابعها: إيتاء الزكاة وخامسها: الوفاء بالعهد، وسادسها: الصبر على البأساء والضراء وحين البأس.
والحاج يحتاج إلى كل هذه الأنواع، فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان، ولا يكمل حجه ويكون مبروراً بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبط ببعض، فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها. ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحج، وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه، ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، فهذه خصال البر.
فمن حج من غير إقام الصلاة، لاسيما إن كان حجه تطوعاً كان بمنزلة من سعى في ربح درهم وضيّع رأس ماله وهو ألوف كثيرة».
لقد كان في السف الصالح - رحمهم الله - يواظبون على فعل الطاعات ونوافل القربات في حجهم، ويستثمرون ساعاته ويعمرون أيامه بالأعمال الصالحة، وكانوا حريصين على قيام الليل، وتلاوة القرآن وأنواع الذكر.
وذلك على العكس من حال بعض الحجاج في وقتنا الحاضر- هدانا الله وإياهم - الذين شغلوا بالقيل والقال والخوض في أعراض الناس والمجادلة بالباطل، مع كثرة اللهو واللعب والمزاح، وقد يتعدى الأمر بهم إلى السب والشتم وفعل ما لا يليق بالمسلم، خصوصاً في تلك المشاعر المقدسة وفي أجلِّ القربات وأفضل الطاعات ألا وهو الحج.
الذكر والاستغفار
ويبيّن د. الرومي أنّ من معاني بر الحج: كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
ومن الذكر في الحج التلبية فيه ورفع الصوت بذلك والدعاء معه، كما هو فعل الصحابة رضي الله عنهم، فعن أبي عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ - أي رفع صوته - فقال: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» وكان عبدالله يزيد مع هذا: «لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً. الحديث أي: نرفع أصواتنا بالتلبية، وما ذاك إلا لأن التلبية من شعار الحج في الظاهر، وفيها اشتغال بذكر الله المتضمن كلمة التوحيد وتحقيقها ونفي الشرك ومخالفة المشركين.
مجاهدة النفس
ويضيف د. الرومي على أنّ من معاني الحج المبرور الإحسان إلى الناس ومعاملتهم بالمعروف وحسن الخلق معهم، فعن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق.
وهذا الأمر يحتاج إليه الحاج كثيراً، فينبغي له أن يتحلى به ويجاهد نفسه في تحقيقه، فيعامل الناس بالمعروف ويحسن إليهم بالقول والفعل، وما سمي السفر السفراً إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لمن زعم أنه يعرف رجلاً : هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، فقال: لا أراك تعرفه. فلا ينبغي للحاج أن يكون كثير الاعتراض على رفيقه وغيره من أصحابه، بل يلين جانبه ويخفض جناحه للسائرين إلى بيت الله عز وجل، ويلزم حسن الخلق وليس حسن الخلق كف الأذى فحسب بل احتمال الأذى.
ومن بر الحج إطعام الطعام وإفشاء السلام، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قالوا: وما بر الحج يا رسول الله ؟ قال: «إطعام الطعام وإفشاء السلام» وفي لفظ آخر «وطيب الكلام».