سافرت لدولة لم أزرها من قبل وعندما نزلت من المطار أقلتني سيارة إلى الفندق وكنت أشاهد من خلف نافذة السيارة المدينة التي أراها مسجاة بالضباب والغيوم، ومع زخات المطر الغزير، وكان مشهد سفري يظهر لي في أبهى وأجمل الصور، فأخذت تغسل هذه الأمطار الشوارع والأحياء دون توقف، وكانت أضوء المدينة الملونة في كل الاتجاهات، مما يضفي على الجو رومانسية شتوية معطرة ويدغدغ مشاعري بأشياء غريبة يهزّ عواطفي لتتناثر منها الأفكار كقطرات المطر.
وصلت الفندق وقابلت موظف الاستقبال الذي تأكد من بياناتي وحجزي وحياني مبتسماً ومرحباً بوجودي في فندق هذه المدينة وأخذ العامل شنطتي وأخذني إلى جناحي، ثم وضعت أغراضي في الدولاب، وغيرت ملابسي، وأخذت الروب ودخلت الحمام لآخذ دشاً دافئاً لأريح أعصابي بعد تعب السفر، وبعدما ما فرغت من ذلك لبست البيجامة ثم ألقيت بنفسي على السرير وأنا منهك، ثم طلع الصباح حيث أفقت على صوت العصافير والكناري مع رائحة الصباح الشتوية المميزة الذي يغلب عليه رائحة القهوة والكعك.
نزلت للوبي وجلست هناك ولقد كان حولي همسات أشخاص من جنسيات مختلفة، فطلبت كوباً من القهوة وقطعتي كعك وأخذت أرتشف عدة رشفات منها مع تأمل للجو الجميل وقطرات على زجاج الفندق، ثم قررت أن أخرج وأتمشى لأتنفس ندى هذا المطر والتمتع بهذا الجو الجميل الذي يكسوه الضباب مع قطرات المطر.
وعندما خرجت رأيت هناك من هو يمشي مسرعاً للحاق بعمله، وهناك بعض الباصات والسيارات التي تنقل الطلاب والطالبات للمدارس، وهناك بعض التجار يصفون بضاعتهم في محلاتهم، وهناك من خرج ليشتري، وكنت منتصباً لابساً جاكيتاً طويلاً وحاملاً مظلتي لتحميني من المطر.
رحت أمارس هواية الفضول لدي في هذه المدينة، ثم أخذ لمعان البرق يرسم لنفسه خطوطاً في الأفق وأخذ صوتُ الرعد يزمجر بغضب ليوثق به عظمة الله في قسوة الشتاء، ثم لم أستطع أن أكمل السير والاستكشاف في طرقات تلك المدينة فأوقفت تاكسي ليقلني إلى الفندق، وجلست في المقعد الخلفي للسيارة ثم وضعتُ مظلتي في الخلف وحياني صاحب التاكسي وقال لي: أين تريد أن تذهب يا سيدي؟ فقلت له: إلى الفندق الذي في أقصى هذه الناحية بالقرب من الميناء وعندما تحركنا قليلاً رأيت أمامي من بعيد فتاة تلوح بيدها للسيارت في هذا المطر، ولكن لا أحد يقف لها فقلت لصاحب التاكسي: قف عند هذه الفتاة أظن أن لديها مشكلة. وعندما وقفنا بالقرب منها قلت لها: تفضلي اركبي يا سيدتي.
فركبت معنا وألقت علي التحية وقالت: شكراً جزيلاً لك يا سيدي. فابتسمت. فقالت لي وهي غاضبة: لقد مكثت أكثر من ساعة وأنا في هذا البرد وتحت المطر كنت ألوح لجميع السيارات ولكن لم يأبه أحدٌ لي وأظن أن الرجولة قد ماتت في هذا الزمن حيث تعطلت سيارتي وأردت طلب المساعدة.
فقلت لها: يا سيدتي لا تحزني، هل تريدين أن ننقل سيارتك الآن أو نحضر لها ميكانيكياً؟
فقالت: لا ليس الآن ولكن غداً في الصباح الباكر.
وما أن ركبت هذه الأنثى حتى دب الدفء في السيارة وشعرت بأن الحياة عادت لأوصالي المرتجفة شيئاً فشيئاً، وأحسست بأني بالقرب من دفاية ولقد كان المطر يرتطم بزجاج السيارة الأمامي والخلفي لتأتي عليها ماسحات الزجاج مما بعث في نفسي الشعور بالهدوء والاطمئنان وينتزع منها إحساس الغربة والوحشة بقوة من جنباتي.
وصلنا للفندق فعرضت عليها العشاء أو فنجان قهوة فشكرتني واعتذرت بحجة أن أبيها وأمها يتنظرونها منذ خروجها من الصباح الباكر لعملها، ثم أعطتني عنوانها ورقم جوالها وقالت: لا بد أن تزورنا لكي يتعرف عليك أبي وأمي وإخوتي.
فقلت لها: أعدك بذلك ولي الشرف يا سيدتي.
ثم أوصيت صاحب التاكسي أن يكون في خدمة هذه السيدة فيما تريد وأن يكون معها في مشاويرها حتى تصلح سيارتها وأن حساب كل ذلك لدي كما أخبرته أن يمرني في الفندق غداً مساءً وحاسبته عن مشواري ومشوار السيدة، ثم دخلت الفندق وتوجهت للاستقبال وأخذت مفتاح جناحي وتوجهت لسريري وأنا مرهق ثم استلقيت مباشرة وغطيت في نوم عميق. وفي عز نومي سمعت صوت والدتي وهي تفتح نافذة غرفتي وتقول لي: سلمان قم يا ولدي ستتأخر عن عملك.