د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هذا الموسم عظيم، موسم الحج الذي تلتقي فيه أفئدة المسلمين، تعظيماً وتكبيراً، فمن رزق الحج فهو على خير، ومن تعذر عنه بلوغ المراد، فسأل الله له الأجر والثواب، ومعظم الناس يهللون ويكبرون، ومنهم من يصوم، وهذا أجر عظيم في موسم كريم.
ومن المناسب في هذا المقام أن أنقل شيئاً مما خص به محمد بن محمد العبدري الحاجي من ذكر لمكة المكرمة شرفها الله في رحلته المعلومة، التي ذكرت في كتاب «الجذوة»، وكتاب الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام لمؤلفه العباس بن إبراهيم السملالي، قاضي مراكش وغيرها من الكتب وقال: «إن مكة شرفها الله من عظيم آيات الله في الأرض الدالة على عظيم قدرته. فإنها بلدة تسبي عقول الخلق، وتستولي على قلوبهم، ويتملك رقها من على غير سبب ظاهر، فالنفوس إليها نزاعة من كل أرض، ولا يدخلها أحد إلاّ أخذت بمجامع قلبه، مع عدم الدواعي إلى ذلك، ولا يفارقها إلاّ واليها حنين، ولو أقام بها على مجامع الضنك سنين، ولا تضيق النفس بلزوم مضناها، على أنها بواد غير ذي زرع، وأرضها جدبة كلها حجر لا ماء بها ولا شجر، وما فارقها أحد إلاّ وعنده النية الرجوع إليها، وهذا أمر أطبق عليه السالف ممن رآها والخلف، واتفق على ذلك المؤالف ممن رآها والمخالف، لا يخلو فكر من تصورها، ولا خاطر من توهمها، فهي نصب العين وحشو القلوب، حكمة من الله وتصديق لقول خليل الله، يحضره الشوق إليها وهي غائبة، ويحن إليها وهي نائبة».
هذا شيء مما قال عنها، وقد تجاوزت بعض العبارات التي لا يحسن إيرادها عفا الله عنه، وهو هنا يصف مشاعره ومشاعر غيره من الحجاج والزائرين لها، وما شعر به، هو وما دأب غيره عليه، فسبحان الله رب العالمين، وأخذ في وصفها ووصف بنيانها فقال: «وهي شرفها الله بلده كبيرة متصلة البنيان، فهي واد بين جبال محيطة بها، لا يراها القاصد إليها حتى يشر عليها، والجبال المحيطة بها ليست شامخة» واستمر في وصفها وما يحيط بها من جبال وأودية، كما ذكر الأبواب ومداخل مكة شرفها الله.
ثم انتقل إلى وصف الحرم الشريف زاده الله شرفاً، وذكر أنه كبير متسع، قريب من التربيع، وانتقل إلى وصف بئر زمزم، وعمق بئرها، وذكر أنه من أعلاه إلى سطح الماء ثلاثين ذراعاً، ومن سطح الماء إلى قعر البئر نحو من أربعين ذراعاً، ولا شك أن ذلك تقديراً منه وإلاّ فلا أراه قد قاس ما تحت الماء حتى يقدر القاع.
ووصف ماء زمزم بأنه دفيئ، وليس بذلك العذب، ثم أنشد شعرا:
ولكن له في النفس موقع فرحة
تفاجأ بعد اليأس قلب كئيب
ترى صورة الأحباب مرآة صفوه
فيطفى من الأحشاء لفح لهيب
ثم انتقل إلى وصف الكعبة المشرفة، وذكر أنها تقع في وسط المسجد الحرام، وأن بناءها عجيب متقن من حجر منحوت محكم الإلصاق، ثم بين معنى مكة وبكة، وانتقل إلى وصف الحرم، وذكر أنه لم يكن به حائط في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام عمر رضي الله عنه ببناء حائط حوله، وأورد أحاديث ذات علاقة بذلك، ووصف الغار التي مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر ووصف جبل أبي ثور الذي يقع فيه الغار.
وأورد شعراً في مدح رسول الهدى عليه أفضل الصلاة والتسليم فقال:
به النور الذي عم البرايا
هداهم للمسالك فاستقاموا
عليه صلاة رب قد حباه
سيادة من عليها والسلام
تتوقف هنا عند بعض من وصفه لمكة المكرمة، غير أنه ذهب بعد ذلك إلى المدينة ووصفها، ووصف يتبع وذكر أنها بلدة صغير قليلة البنيان، كما ذكر قرية بدر وأن بها مسجداً، وذكر مذهب أهلها.
لن أخوض في وصف للبلدان، أو حتى وضع مكة في زمن رحلته، ولكن من المناسب ذكر ما قاله ابن عبد السلام الناصري في رحلته، فقد كانت له مآخذ على العبدري -رحمهما الله جميعاً-، لأنه أكثر من ذم عدد البلدان التي مر بها، فقد بذم أهلها، وتجنى عليه الناصري، وأحال سبب ذمه للبلدان وأهلها إلى أسباب لا يحسن إيرادها. والحقيقة أنه قد قال خيراً في مكة شرفها الله، وقال حقاً في مشاعره ومشاعر غيره عند الحلول والمغادرة أو المقام بها، وأسهب في ذلك.
هذه قطفة من رحلة العبدري، وهي واحدة من عدد من الرحلات الحجازية التي كانت تأتي من المغرب والمشرق لقضاء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
حفظ الله الحجاج ورعاهم، وأعادهم سالمين غانمين إلى ديارهم.