عماد المديفر
أقامت جمهورية الشيشان إحدى ولايات روسيا الاتحادية، مؤتمرًا حمل عنوانًا كبيرًا ذي أبعاد خطيرة.. يريد المؤتمرون من خلاله أن يعلمونا «مَن هم أهل السنة والجماعة»!، بعد أكثر من 1400 سنة من رسالة النبي الذي بُعث رحمة للعالمين، عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام.. زاعمين أن المؤتمر يهدف إلى «بيان وتوصيف منهج أهل السنة والجماعة اعتقادًا وفقهًا وسلوكًا وأثر الانحراف عنه».. لكن الواقع أنه مؤتمر زور وشقاق.. يستهدف الفتنة، وتزييف السنة، وشق عصا الجماعة، واستباحة بيضة المسلمين.. وهو ما أشار إليه بوضوح بيان هيئة كبار العلماء.. وكأني بالمؤتمرين في غروزني وقد أغفلوا قول الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شيعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، وقوله عزّ من قائل حكيم: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)..
لقد خلص «المؤتمرون» إلى تعريف إقصائي متطرف عجيب غريب، مليء بالتقسيم المُمْزِق، والتناقض المطبق، لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على تعليل.. مؤداه أن «أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علمًا وأخلاقًا وتزكية في المنهج»..!
التعريف ذاته يبطل بعضه بعضاَ..! إِذ ما كانت عقيدة أئمة الفقه الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، لا أشعرية ولا ماتريدية..! ولا كانوا متصوفة دراويش..! فبعضهم استاذ بعض.. وبعضهم تلميذ بعض.. اختلافهم اختلاف في فتاوى الفقه والفروع.. لا في العقيدة والأصول.. ولو كان بأيديهم لربما أخرجوا الفقهاء الأربعة من تعريفهم.. لكنهم اضطروا لذلك اضطرارًا، لتسويغ دعواهم.. وتمرير مشروعهم.. وإلا فكيف بهؤلاء المؤتمرين أن يأخذوا فقه هؤلاء الأئمة الأربعة.. ويردوا عقيدتهم؟!
قال الأصفهاني -رحمه الله- في «الحجة في بيان المحجة»: (إنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، وقولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا ولا تفرقًا في شيء ما وإن قلَّ، بل لو جمعتَ جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلبٍ واحد، وجرى على لسانٍ واحد). قال ابن تيمية: (اعتقاد الشافعي - رضي الله عنه - واعتقاد سلف الإسلام - كمالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه - هو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم - كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبدالله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك أبو حنيفة - رحمة الله عليه - فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك، موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة).
إن من يدعي اتباع هؤلاء الأئمة الفقهاء الأربعة والاقتداء بهم، فعليه أن يأخذ طريقتهم في الفقه والاعتقاد معًا، ولا يصح شرعًا ولا عقلاً أن يزعم أحد أنه يتبع إمامًا ما في الفقه ويخالفه في الاعتقاد، فإن مقتضى ذلك أنه يضلله ويبدعه في الاعتقاد، وهذه الدعوى من التناقض الذي يأباه الشرع القويم والمنطق السليم، كما قال الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي - وكان من أئمة الشافعية توفي عام 532هـ - بعد أن ذكر نقولاً عن الأئمة في أصول الدين واتفاقهم في ذلك - : (ووجه ثالث لا بد أن نبين فيه، فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزامًا للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه أو يبدعه، فانتحال مذهبه - مع مخالفته له في العقيدة - مستنكر والله شرعًا وطبعًا، فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد، إِذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد، ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذا عن سواء السبيل فيما تزعمه، إِذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد).
وفي هذا كشف لتضليل ما جاء في نص البيان الختامي لمؤتمر الضرار الذي سُمِّي زورًا وبهتانًا بـ (مؤتمر أهل السنة)، وللحديث بقية والله المستعان.
إلى اللقاء..