عبدالعزيز السماري
لا يمكن إغفال حقيقة تاريخية أن موسم الهجرة إلى الشمال كان عنوانًا للتاريخ النجدي قبل أن يكون عنوانًا لرواية الشهير الطيب صالح؛ فالهجرة من نجد امتدت إلى قرون، قبل أن تحط رحالها في فترة الخمسينيات الميلادية، وهي الفترة التي شهدت بدء حالة الاستقرار السياسي في الجزيرة العربية، وبدء مرحلة استثمار النفط.
حاول بعض المؤرخين اختزال تلك المواسم في ظاهرة العقيلات، لكنها كانت أكبر من ذلك؛ فقد اتصف أهل هذه المنطقة طوال التاريخ بالقدرة على اتخاذ القرار الصعب، وركب المطايا، ثم السفر في كل الاتجاهات لطلب الرزق والاستقرار.
كان الاختلاف في ظاهرة العقيلات أن البعض حاول حصرها في أهل القصيم، لكنها لم تكن كذلك؛ فقد أُطلقت التسمية على النجديين الذين كانوا يعملون في الجيش العثماني، وربما من العقال جادت التسمية. وقد هاجرت عائلات من مختلف المناطق للعمل، واستقرت بعضها في مصر والهند وفلسطين، وأسسوا تجارة عامرة، ثم تحولوا إلى نسيج لا يختلف كثيرًا عن أطياف تلك المجتمعات.
وقد عاد بعضهم، ولا يزال هناك من اختار أن لا يعود؛ وذلك لتوالي الأجيال نتيجة ابتعادهم الطويل عن منازلهم وقراهم في نجد. وكانت أهم أسباب الهجرة في ذلك الوقت ارتفاع تكاليف العيش في مناطقهم بسبب بيئتهم القاسية والفقر، وندرة فرص العمل. وكان الخيار دومًا امتطاء الجِمال ثم الذهاب بعيدًا.
وإذا كان هناك ثمة اختلاف في الماضي حول جذور العقيلات، وهل كانت ظاهرة خاصة للقصمان، أم أنها تشمل جماعات من مختلف قرى نجد، فإن ما يحدث الآن من إحياء لثقافة الهجرة لا يوجد فيه اختلاف حول طبيعة منشئه؛ فقد بدأت حركة طيران نشطة بين بريدة ومدينة طرابزون التركية، ثم امتدت لكثير من المدن والقرى داخل نجد وخارجها..
قد يبدو الأمر في ظاهره حراكًا عابرًا في السياحة، لكنه - حسب وجهة نظري - ليس كذلك، بل دليل على أن ثمة متغيرات طارئة، دفعت هؤلاء بشكل عفوي إلى استعادة ظاهرة العقيلات مرة أخرى، التي لا تعني الهجرة والقطيعة مع الوطن، لكنها حركة دافعة للبحث عن الاستقرار والاستثمار في مناطق آمنة.
نحتاج إلى إعادة النظر في كثير من الأمور التي تجري على الأرض؛ فبعد ظاهرة هروب رأس المال الجبان بدأت الطبقة الوسطى محمَّلة بمدخراتها في إعادة الجذور التاريخية لثقافة الهجرة إلى الشمال؛ وهو ما يستدعي عدم الاستمرار في زيادة معدلات الطرد في البيئة الصحراوية، ومنها مراجعة رفع معدلات الغلاء في أسعار الطاقة والمياه والكهرباء.
ولعل الخطوة الأهم تقييم ظاهرة سوء تقديم الخدمات، وتدهور البيئة في كثير من المدن والقرى؛ فمياه الشرب تكاد لا تتوافر حول المدن الكبرى، وإذا وصلت تكون خاصة جدًّا في مسالكها، والجهود المبذولة لم تتجاوز بعد قرار رفع قيمة الشرائح، ولم تصل إلى إعادة هيكلة العمل البلدي والخدماتي في القرى والمدن، ومنح الأهالي فرصة للمشاركة في تطويرها، وكما قيل (أهل مكة أدرى بشعابها).