د. فوزية البكر
كما قد يقدر الله علينا جميعاً كمواطنين، كان عليَّ أن أمر من بوابة ملاحقة ملف علاقي في إحدى الدوائر الحكومية. وقبل هذه (المعضلة) كنت على قناعة بأننا فعلا قد دخلنا من بوابة الحكومة الإلكترونية، بحكم ما أراه من تقدم ملحوظ في هذا المجال في كثير من القطاعات التعليمية والإعلامية وعلى رأسها الجامعات والمنشآت الصحفية وكثير من الوزارات كالداخلية والعدل.. إلخ، لكن معضلة ملاحقة الملف العلاقي المسمى راس غليص جعلتني أراجع قناعاتي وأدرك أن عصر السلحفاة ما زال حياً ينتعش، بل ويرقص مع كل لحظة انتظار ومع كل قطرة عرق عشتها أنا ومئات من المراجعات وعشرات من الموظفات اللاتي كن يتراكضن هنا وهناك بلا جدوى.
حين تقبل على قسم النساء في هذه الدائرة الحكومية المهمة ستذهلك مئات المراجعات ممن يمكن تسميتهن بأسرى العيادات الأولية اللاتي لم يحظين بعد برقم المراجعة للأقسام الداخلية، وحين تقترب من بوابة الدخول والخروج للقسم الداخلي تجدها وقد سلمت عن جدارة لامرأة تزن ضعف خمس نساء، وتحرك رجلها اليمني الضخمة لسد الباب فيما لو حاولت إحداهن الدخول دون رقم، وحين تدلف أخيراً إلى الدائرة ستذهلك أعداد النساء اللاتي ملأن المقاعد والممرات والغرف، والموظفات يركضن لاهثات يشرحن لهذه ويفسرن لهذه، والأخرى ضاجرة من طول الانتظار وبدأت تصرخ طالبة العون، ولا أحد يعرف ما يجرى وعلى كل واحد أن يدبر نفسه!
وحين خرجت في وقت الصلاة للبحث عن قارورة ماء هالتني أعداد الرجال التي بدأت تتكوم في طوابير تحت الشمس الحارقة في انتظار انتهاء الصلاة وإعادة فتح أبواب الرجال التي يبدو أنها هي الأخرى تغص في زحام عظيم.
المعاملة مرسلة من 3/8 /1437 وحاولت ملاحقتها قبل الإجازة لكني لم أعرف من أين أبدأ، حين ذهبت هناك ورأيت جيوش النساء الزاحفة قررت ترك الأمر يأخذ طريقه ويحل خلال الإجازة، لكن بعد العودة تبيّن أن (راس غليص) لا يزال نائما بهدوء في درج ما، وأن المعاملة لم ترجع للجامعة بعد، لذا قررت أن أتحلى بكل أنواع الصبر وطولة البال وأذهب في المهمة المقدسة، حيث تمكنت بفعل حرف الدال من اختراق العديد من التجمعات مع اختراق مهادن للبوابات حتى حظيت بعد جهد بالحديث إلى المسؤولة التي نظرت إلى برشاقة، وأعطت حركة ظريفة من عينيها للموظفة للبحث عن الملف وركضت خلفها آملة فعلا أن تجد راس غليص بعد كل هذه الشهور. جلست خارج الغرفة أترقب في قلق حتى أقبلت شابة سمراء بابتسامة جميلة وبيدها الملف الذي تحول لونه الأخضر إلى شيء يشبه الرمادي على الأخضر الباهت: شيء هكذا بدون سمات لكنه في النهاية راس غليص الذي حفيت قدماي لشهور وراءه فهل أضم هذا الغالي؟ أم أتركه يهرب مني مرة أخرى إلى عالم الديناصورات؟ كيف لم تفلح مئات المكالمات من إخراجه من الدرج منذ تاريخ الإرسال حتى كان عليَّ القيام بغزوتين لهذا المكان الديناصوري ما العمل؟ نظرت الرقيقة بخفة وعينين واعدتين قائلة: وعد بعد العيد إن شاء الله!
خرجت من القسم النسائي لأري مئات الرجال المساكين لا زالوا يتدافعون تحت الشمس الحارقة في زحام مخيف، فهل يصح هذا في دولة الرؤية 2030؟
طبعاً هذه المقالة ليست بشأن رأس غليص الذي سيقص إن شاء الله بعد العيد، لكنها حول جهاز حكومي بهذه الحساسية والأهمية الذي يفترض أن يتبع إجراءات تنظيمية أكثر كفاءة تحقق السرعة والتتابعية في تقسيم العمل، إضافة إلى ضرورة ضخ مئات الموظفين والموظفات فيه لإنهاء الآلاف من المعاملات المعلقة التي لا يمكن للكادر الموجود حالياً إنهاؤها، وفي حين تئن الكثير من المؤسسات الحكومية الأخرى بضخامة طواقمها خصوصاً النسائية لتصل إلى حد البطالة المقنعة، يغرق جهاز مهم كهذا مع آلاف المراجعين (600 مراجعة للقسم في اليوم الواحد). لا بد من حل ينهي معاناة الآلاف من المواطنين والمواطنات ويخفف من أعباء الضغط الرهيب والصراخ والحر والعرق الذي يغرق الجميع فيه: الموظفات والمراجعات في آن.
سؤال للأذكياء فقط من القراء: أي جهاز حكومي هذا الذي نتحدث عنه؟