د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
في يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة ودَّعت دنيانا الفانية ابنة أختي سارة بنت حمد اليحيى. وكان هذا اليوم آخر أيامها بمدينة ميونخ بألمانيا، حيث أمضت ثمانية عشر شهراً تراجع العلاج بالمستشفى الجامعي هناك. صعدت روحها الطاهرة إلى بارئها لتسكن في رحاب رب رحيم آمنة مطمئنة. غادرت الجسد الذي أنهكه المرض، فكأن الموت - بمشيئة الله - اختطفها لينقذها من براثنه، بعد أن عجز العلاج عن التغلّب عليه. لكن الداء الشرس الذي أنهك جسد سارة عجز عن إنهاك صبرها وإيمانها. كانت صابرة غير مبالية بوحشية المرض العضال، وكانت شديدة الإيمان راضية بقضاء الله وقدره. قابلتها مرتين خلال مدة استشفائها، مرّة في المرحلة الأولى من العلاج ولم يكن بادياً عليها شيء من مظاهر الضعف، بل بدت كعادتها مشرقة المحيّا بارقة الابتسامه لطيفة الحديث؛ ومرّة أخرى بعد ثمانية أشهر من العلاج، فكانت بادية النحافة تستعين على قلّة الشهية ونقص الوزن بالتغذية الوريدية، ومع ذلك حافظت على إشراقة المحيّا وبريق الابتسامة ولطف الحديث. فلماذا لم يظهر عليها أثر من معاناة - سألت نفسى. لكنّي تذكرت أنها تعوّدت على رؤية المعاناة عند الآخرين لأكثر من عشرين سنة، فهانت عليها معاناة جسدها. وكان يقلقها ما تراه من معاناة المساكين المحرومين في معيشتهم - سواءً منهم القلّة في بلدنا أو الكثرة في أقاصي غرب أفريقيا. وكانت تتعب نفسها في البحث عن دواء يخفّف بعض معاناة هؤلاء؛ وقد وجدته في فعل الخير، وكأنها تلبّي نداء المنادي في شهر رمضان: يا باغي الخير أقبل. وهي تبغي الخير في رمضان وفي غير رمضان. تبغي الخير لنفسها بالعبادة والتقوى، ولغيرها من المحتاجين بالاتصال بمن تعرفهم أو تعرف عنهم من المحبين للبرّ من طبقات المجتمع الميسورة والمتوسطة ودعوتهم لفعل الخير لإخوانهم الفقراء والمساكين والتبرع بما تجود به أنفسهم لشراء ما يدخل السرور على أطفالهم وأُسرهم مثل هدايا وكساوى العيد والبطانيات ونحو ذلك، آو للمشاركة في وقف خيري باسم من يعز على المتبرّع لإنشاء مساجد أو مدارس أو حفر آبار في ربوع أفريقيا. وهي أعمال يقوم بتنظيمها وإيصالها أو توزيعها في الأغراض الخيرية المحددة لها أفراد موثوقون مجازون من الجهات الرسمية لدينا. ولا يهدأ خاطرها إلاَّ بعد أن ترى الخير قد وصل إلى مستحقيه. وحتى في أزمتها المرضيّة الأخيرة قبل ثلاثة أسابيع من وفاتها - كما ورد في تغريدة للأستاذعبدالكريم التويجري - كانت تتابع وتسأل عمّا تمّ بشأن مشاريع خيرية تكفّلت بها في رمضان المنصرم. كانت متدينة تديّناً خالصاً لوجه الله لا يخالطه تجهّم أو تعال أو تقريع أو تصنّع، بل سماحة ورقّة قلب ومحبة - تماماً على الوجه الصحيح الذي شرعه الإسلام. فلم يكن حرصها على صلة الرحم وتعاملها مع الغير من الأقارب والمعارف وزميلات العمل يتأثّر سلباً بآراء الآخرين وأفكارهم التي تختلف عمّا تراه وتقتنع به، بل كانت تقابل هذا الاختلاف - وإن كبُر - بحسن الخُلق والنقاش المفتوح، إن كان إلى ذلك سبيل. وعندما تسنح فرصة مناسبة في لقاء نسائيّ اجتماعيّ، فإنها تنتهزها للتوعية بما يهمّهنّ من شؤون دينهن. وعندما ترى إحداهن تلبس بطريقة ترى أنها غير مناسبة فإنها لا تشير إليها ولا تزجرها، بل تعمل على الاجتماع بها على انفراد وتنبّهها برفق. وإذا علمت من معارفها برغبة عاملات منزليات في التعرف على دين الإسلام أو الدخول فيه، فإنها تفسح لهنّ في بيتها مكاناً لتقوم بتوعيتهنّ برفق وسماحة. تقوم بكل ذلك كما هو شأنها واتّباعاً لسنّة محمد عليه الصلاة والسلام. لقد أجهدت نفسها في سبيل الخير، فاطمأنت وحقّ لها أن تستجيب لنداء ربها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي}. فيا لها من امرأة صالحة - رحمها الله.