د. جاسر الحربش
نشرت مجلة نيويورك تايمز العالمية مقالات عدة عن تفكك العالم العربي ومساهمة ما سمي ثورات الربيع العربي في ذلك. بعد قراءة المقدمة وشيء من النص توقفت عن المتابعة، لأنني لم أتوقع العثور على جديد. بالإضافة إلى خمس مقابلات وصفية لمواطنين فروا من أحداث الربيع العربي، إما هاجروا إلى الغرب أو علقوا في الطريق، ركز البحث على الغزو الغربي للعراق عام 2003 م، وعلى مرور المئوية الأولى لسايكس بيكو وضرورة إعادة التقاسم لأن مراكز القوى تغيرت، وذكر أيضاً غياب الديموقراطية والعدالة وتسلط الأنظمة واستيلاء نخب فاسدة على الثروات، وكانت كل جزئية سببية تحمل حصتها من الصواب. كم هي نسبة كل سبب على حدة في الخراب الذي نتج عن أحداث الربيع العربي، لا أحد يستطيع التحديد، ولكن ذلك لا أهمية له في تقرير المجلة لأن بحثها المذكور كان يعتمد على التخمين والانطباعات الشخصية. ما لم تذكره المجلة كان الأكثر أهمية والأشد وضوحاً، وهو أن تلك الأحداث كانت حتمية وقادمة لا محالة، وأنها - وهذا مهم جداً لم تكن أسبقية عربية، بل سبقتها الأحداث نفسها في رومانيا ويوغوسلافيا واتحاد الجمهوريات السوفييتية وإندونيسيا وباكستان قبل التقسيم، وفي أقطار كثيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكل ذلك حدث قبل انهيارات الربيع العربي بعقود.
السبب الذي انتظم كل تلك الانهيارات المؤدية أحياناً إلى التقسيم الجغرافي كان هو نفسه: الحكومات الفاسدة مالياً وإدارياً وقانونياً، مما يجعلها مبرمجة من الداخل للانهيار. كثر الكلام منذ بداية الأحداث عن سايكس بيكو تحديداً وخصوصاً في التحليل العربي. بالقليل من المجهود الفكري والمقارنة يستطيع المهتم استنتاج حتمية السقوط من التضييق على الحريات واحتكار الثروات والسلطات واللعب على تناقضات المجتمعات للاستمرار في السلطة، وهي ظواهر كانت سائدة في كل الدول التي سبقت العالم العربي بالانهيار، سواءً كانت عربية أو غير عربية. لم تكن التركيبة الفسيفسائية بعد سايكس بيكو هي السبب، وإنما أنظمة الحكم المتعاقبة على تلك الفسيفساءات. تلك الدول استمرت تحكم بأنظمة من خارج التاريخ الحديث، بمعنى أنها كانت خارج التطور لإدارة وحاكمية المجتمعات. نظراً لكونها تشكل منظومة متجاورة ومتشابهة، تساقطت مثل أحجار الدومينو بعد سقوط الحجر الأول.
للأسف لم تتوقف مصائب الشعوب في تلك الدول المنهارة بسقوط حكوماتها، فقد ولدت لها ثوراتها تيارات أشد إغراقاً في الماضي وبعداً عن التحديث. سقطت الأنظمة الفاسدة مع أجهزتها التيكنوقراطية، فامتلأت الساحات بعصابات ظلامية تشترط للإدارة والحوكمة شروطاً انتهت صلاحياتها منذ عشرات القرون.
لابد مرة أخرى من المقارنة مع أحداث مشابهة من خارج الجغرافيا العربية. ماليزيا وسنغافورة كانتا دولة واحدة ثم انفصلتا بعد أحداث دامية. لأن كل قسم أخذ بحوكمة وإدارة العصر الحديث حصل التطوير والتقدم عند كل الطرفين وانتهت العداوات. إندونيسيا بالمقابل، وباكستان بشقيها القديمين، وإفغانستان وإيران والجغرافيا العربية بكاملها ما زالت تدار وتحوكم بالمفاهيم القديمة، والأحوال فيها كما ترون من الاضطراب والقلق.
عندما تصاب تفاحة ببقعة خراب في السطح يمكن بشطفة سكين التخلص من البقعة الفاسدة وتبقى التفاحة صالحة، وعندما يكون خراب التفاحة من القلب تهترئ وتتفتت. بالمختصر: كانت أحداث الربيع العربي متوقعة بحتمية التاريخ وليس بسبب سايكس بيكو أو الغزو الخارجي، فهذه كانت مجرد معاول إضافية سقطت على بنيات غير متماسكة.