د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
قبل أيام سألت بعض الزملاء الذين يستقبلون مراجعين في عياداتهم عن أكثر ما لاحظوه بعد أيام الحج في السنة الماضية وما قبلها، فكان الجواب أنه كثرة المصابين بالنزلات الشعبية (الإنفلونزا). أولئك المرضى خليط من حجاج أصيبوا بالعدوى في أثناء أدائهم لمناسك الحج وأقاربهم أو جماعتهم الذين خالطوهم مباشرة بعد الحج. في العام (1435هـ) بلغ عدد حجاج الداخل (سعوديين وغير سعوديين) حوالي سبعمائة ألف حاج، فإذا فرضنا أن عُشرَ هؤلاء الحجاج عادوا حاملين أعراض الإصابة بفيروسات (الإنفلونزا) -أي حوالي سبعين ألف حاج- وأن كلّاً من هؤلاء سينقل العدوى إلى ثلاثة من المخالطين الذين لم يحجوا، فإن عدد المصابين قد يبلغ مائتين وثمانين ألف شخص. ومع أن حالات الإنفلونزا لا تقارن من حيث الشدّة والمضاعفات بأوبئة كالحمّى الشوكية والكورونا إلا أن علينا أن نتصوّر الإجهاد الذي يشعر به هؤلاء المرضى وتكلفة العلاج التي إمّا أن يتحملّها المصاب الذي يراجع العيادة الخاصة أو يشترى الدواء لنفسه مباشرة من الصيدلية، وإمّا أن تتحمّلها الدولة التي توفر خدمات علاجيه لمراجعي مرافقها الصحية، وأخيراً الخسارة التي يسبّبها غياب بعض المرضى عن العمل. لتلافى كل هذه الأضرار أصدرت وزارة الصحة -للمرة الأولى منذ بدء تداول لقاح الإنفلونزا في المملكة- قراراً بأن يكون تطعيم حجاج الداخل بهذا اللقاح إلزامياً ابتداءً من هذا العام. وستتضح مدى فاعلية هذا الإجراء بعد رجوع الحجاج من حجهم، ومقارنة عدد المراجعين بسبب الإصابة بالنزلة الشعبية (الإنفلونزا) في المدّة من 13 إلى 30 من ذي الحجة مع أعدادهم في أعوام قريبة سابقة. والمتوقع أن تنخفض الأعداد انخفاضاً شديداً. وللقاح فائدة أخرى، وهي أن مفعوله يدوم لمدة ستة أشهر من حين التلقيح بحيث يغطّى فترة تقلّبات وبرودة الجوّ التي هي عادة موسم الإصابة بالإنفلونزا، وفى كل الأحوال سوف يستفيد منه مرضى السكري وكبار السنٌ والمصابون بأمراض تضعف المقاومة. أما إذا لم تثبت جدواه هذه السنة، فلا يجب التخلي عنه في موسم الحج القادم، لاحتمال أن يكون السبب راجعاً لعدم التزام جميع حجاج الداخل بالتطعيم، أو أن التحليل المعملي يثبت أن هناك أنواعاً من الفيروسات حملها حجاج قادمون من أنحاء المعمورة لا تتطابق مع أنواع الفيروسات التي يحصّن اللقاح ضدّها - وهذه مسألة قد تفتى فيها منظمة الصحة العالمية.
في العنوان ذكرت أن هذا التطعيم هو أحدث أسلحة وزارة الصحة التي تدافع بها حقيقة عن سلامة صحة الحجاج أنفسهم ومن ثَمّ منع انتشار الأوبئة في سائر البلاد. فقد أطلقت فيما سبق بفعالية أسلحة وقائية لصدّ هجمات وبائيه، منها -مثلاً- التطعيم ضدّ الحمّى الشوكية، الذي لا يزال يُطبق بنجاح على كل حاج مضى على تطعيمه السابق ضدّها ثلاث سنوات، وكان آخر تفشياتها عام 1409هـ أي منذ ما يقارب ثلاثين سنة. أما الأمراض الوبائية الأخرى -كالجدري والطاعون والكوليرا- فقد أصبحت راقدة في دفاتر التاريخ إلى غير رجعة إن شاء الله - بفضل التطعيم، والإصحاح البيئي لوسائل النقل ومصادر المياه، ومكافحة الحشرات ومراقبة سلامة الغذاء، والاستقصاء الوبائي لكل حالة مشتبهة. ومن الوسائل الوقائية التي لا غنى عنها لحماية صحة الحجاج والبلاد مراقبة التزام الحجاج القادمين من الخارج بالاشتراطات الصحية المطلوبة - لا سيّما شهادات التطعيم ضد الأوبئة كالحمّى الصفراء والحمّى الشوكية. التحديات الصحية التي تواجه وزارة الصحة في موسم الحج لا تنشأ فقط من تلك الأوبئة الوافدة من الخارج، بل إن منها ما قد ينشأ من البيئة المحلية. فيما مضى كانت الملاريا متوطّنة في بلاد الحجاز، فكانت تمثل تهديداً وبائياً للحجاج بسبب انتشار البعوض الناقل لها. إلّا أن المكافحة المكثّفة للبعوض قضت عليها. ومن التحديات الوبائية الأخرى -وإن كانت محدودة - حمّى الضنك التي ينقلها البعوض المتوطّن في كل من جدة ومكة المكرمة وأمكن الحدّ من تفشيها نتيجة المكافحة الحشرية والبيئية المتواصلة. ومنذ ثلاث سنوات ظهرت حالات وبائية من إصابة الجهاز التنفسي بفيروس الكورونا -تبين فيما بعد أن مصدرها على الأرجح هو الإبل. ومضاعفات الإصابة قد تؤدى للوفاة، لكنها لم تأخذ طابع النازلة المتفشية بسبب طبيعة انتقال العدوى بالاحتكاك المباشر والاحترازات الوقائية في المستشفيات وفى التعامل مع الإبل وتأثير العامل المناخي (فصل الصيف)، ولذلك تضاءلت تدريجيا ولم تشكل خطورة لموسم الحج. وقد مرّت على الوزارة قبل ذلك أوقات عصيبة واجهت فيها خطر أوبئة مستجدة وافدة مثل إنفلونزا الطيور أو إنفلونزا الخنازير أو (سارس)، ولكل منها كانت الوزارة تضع خطة وقائية، لكن لم يظهر منها تفشيات مطلقاً وتلاشى خطرها قبل موسم الحج. أمّا خطر وباء حمّى الوادي المتصدع الذي اجتاح منطقة جازان عام 1421هـ فلم يصل إلى مكة المكرمة والمشعر المقدسة بفضل محاصرة الوباء الذي كان يسبّبه فيروس حملته الماشية الواصلة إلى جازان من منطقة في شرق أفريقيا، وينقله أحد أنواع البعوض. الأمراض المعدية الوبائية -مثل تلك التي أشرت إليها- في بلد يستقبل طوال العام ملايين الوافدين من حجاج ومعتمرين وقوى عاملة تمثل تحدياً لوزارة الصحة يجبرها على استخدام كل سلاح ممكن لمقاومة أخطارها، بالتعاون مع الجهات الداخلية والخارجية ذات العلاقة. وفى هذا السياق عملت الوزارة على استكمال منظومتها الوقائية ودعمها بإنشاء المختبر الصحي الوطني الذي يفترض فيه -عند تجهيزه وتشغيله- أن يكون ذراع الوزارة في التشخيص المبكر لظهور حالات معدية مجهول كنهها، وبالتالي استباق انتشارها، كما حصلت الوزارة على موافقة المقام السامي على مشروع رفعه مجلس الخدمات الصحية عام 1429هـ بإنشاء مركز وطني لمكافحة الأمراض، ولم يُفعّل بعد. ومن شأن هذا المركز إذا تمّ تفعيله على الوجه الصحيح مع المختبر الصحي الوطني أن يخدم جميع الجهات الصحية وأن يطوّر الخدمات الوقائية في المملكة.