فوزية الجار الله
لأننا مازلنا نعاني وطأة حر الصيف، ولأن فئة غالبة منا مازالت تتمتع بإجازة طويلة، تلكم هي فئة الطلاب والطالبات والعاملين في قطاع التعليم، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين لم يغادروا أراضيهم خارج حدود البلاد، لذلك ولأسباب أخرى سيكون حديثي معكم هذا الأسبوع خفيفاً، أحاول جهدي أن يكون بمذاق شراب بارد نحتويه بلذة في عز الظهيرة التي لا مفر منها إلا إلى أجمل الكلمات وأعذب المفردات..
رحم الله محمد الثبيتي الشاعر السعودي الذي تميز بعمق اللغة والمعنى، على سبيل المثال، لا أملّ سماع قصيدته «تعارف» عبر اليوتيوب، القصيدة تتضمن لوحة لغوية جميلة لاثنين يتعرفان على بعضهما البعض عبر برنامج (الماسنجر) القصيدة تقول:
غرفة باردة.. غرفة بابها.. لا أظن لها أي باب! وأرجاؤها حاقدة / غبشٌ يتهادى على قدمين، وصمت يقوم على قدم واحدة..
هنا وصف دقيق جداً لحالة الارتياب وعدم الارتياح التي تنتاب اثنين لا يعرفان بعضهما سوى التو واللحظة من خلال حوار مقتضب عبر غرفة الماسنجر..
ثم تستمر القصيدة حتى (حين هممت بالقول لا فائدة..) كناية عن إحساس الشاعر بالملل.. هنا يلقي الضوء على الجانب الآخر: (كان يثوي بقربي حزيناً ويطوي على ألمٍ ساعده.. ) هنا تبدو روعة الثبيتي وعمقه اللغوي في استخدامه مفردة (يثوي) الكلمة نجدها مذكورة في إحدى آيات القرآن الكريم (وما كنت ثاوياً في أهل مدين) - سورة القصص- أي ما كنت مستقراً، والثواء: الاستقرار..
نجدها أيضاً هنا في قول عنترة بن شداد:
طالَ الثواء على رسومِ المنزلِ
بين اللّكيك وبين ذات الحرملِ
ينتهي الحوار باختلاق كل منهما اسماً له.. فقد قال له محاوره بأنه حاتم طي، تعريفاً بنفسه، فأجابه صاحب القصيدة بأنه: معن بن زائدة..
هذا الاختلاق للاسم يبدو إلى حد كبير متوقعاً في مثل هذه الحالات إما بحسن نية للتخلص من مأزق كشف الشخصية والتحدث بوضوح منذ الخطوات الأولى للتعارف وربما يكون أحياناً بسوء نية مبيتة، وفي الحالتين فالموقف برمته لا يخلو من عبثية، اثنان يحاولان الخروج من وحدتهما من خلال حوار في غرفة صامتة.
رحم الله الشاعر الثبيتي مرة أخرى، لو بقي بيننا لربما أتحفنا بمثل ذلك وما هو أجمل.
**
ثمة فرق بين الصحفي والكاتب الأديب، لكن لا أحد منهما أفضل من الآخر حين تكون الحقيقة هي الهم المؤرق لهما، وحين يلتزمان الحيادية وعدم التحيز، حين يدرك كل منهما بأنه لا يقدم عملاً لحظياً يتقاضى مقابله مبلغاً مادياً وحسب وإنما عمل مسؤول لا بد له من تحري الحقيقة والمصداقية قدر الإمكان ليبقى اسمه راسخاً في أذهان معاصريه وربما يمتد ذكره لأجيال أخرى.