د. حسن بن فهد الهويمل
وليست حال (المتكلمين) بأحسن حالاً من الفلاسفة. فالمتكلمون من (الجهمية), و(القدرية)،و(المعتزلة)،وغيرهم، يستنزفون كلَّ طاقاتهم في تصور (الذات الإلهية). على ما يمليه عليهم عقل مرتهن بحواسه الخمس الخدَّاعة.
وكيف يتأتى الإثبات المطلق, أو النفي المطلق, والله يقول عن ذاته: (ليس كمثله شيء). ونفي المثلية يحمل على التصديق.
فعندما يصف الله نفسه بالسمع، والبصر، أو يخبر أن له يداً، ووجهاً فإن ذلك يقتضي الإيمان بمطلق الصفة, دون الدخول في التفاصيل.
الله سميعٌ، عليمٌ، بصيرٌ مُتَكَلِّمٌ على الشكل الذي هو عليه, والذي لا يعلمه إلا هو. وواجب المكلف الإيمان بالله،وإثبات كلِّ ما قال عن نفسه, والعدول عن التفصيل، وتفادي النفي لعجز المكلف عن تصور الصفة، والعدول عن التفويض المطلق.
والفلاسفة،والمتكلمون في سبيل تكريس الشقاء, والتوتر, يتحدثون عن (الروح) وأحوالها, وكيفيتها, حين تكون متلبسة بالجسم، أوحين تفارقه في النوم، أو فيما بعد الممات.
وهذه المماحكات الفارغة, تمتد عبر التاريخ الفكري, على الرغم من أن القرآن الكريم حسم الموقف، وصرف المتسائلين بقوله تعالى:- {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.
ولك أن تقول مثل ذلك عن (القضاء،والقدر) وأحسب أن قصة (موسى) مع (العبد الصالح) تعالج ذلك. للتأكيد بأن إشكالية (القضاء، والقدر) مرتبطة بالعلم اللَّدُنِّي، ولا مجال لحسم المشكلة بجدل العقل مع النص.
فالموت, والمرض, والغنى, والفقر, والشرف, والوضاعة, وسائر الأخلاق: الحسنة،والسيئة إنما تتم بقضاء:- (ما بأيدينا خلقنا تعساء).
والقدر سر الله في خلقه, فلا يعالج بالعقل, وإنما يعالج بالنص،والإيمان المطلق, والتسليم.
في مطلع شبابي أي قبل نصف قرن, وجدت في (مكتبة النهضة) ببريدة كتاباً في سلسلة (كتاب الهلال) تحت عنوان (الله) للعقاد. ولم أجد بداً من شرائه على الرغم من قلة ذات اليد، مع أن ثمنه لا يتجاوز (ريالاً واحداً), وعلى الرغم من بدائية المعرفة، ومحدوديتها، وضيق العطن عندي.
لقد صُدِمت بموضعة (الذات الإلهية), وأنا سليل مدرسة سلفية, ناصعة العقيدة.
ولما أزل أحتفظ بالكتاب, وبتعليقاتي الطائشة عليه, وعلى مؤلفه، ولما يتبين لي أنه يستعرض تصور النحل, والملل الغربية للذات الإلهية, بكل الحيادية، والتطلع المعرفي.
كان الكتاب إذ ذاك طلاسمَ في أسلوبه, وموضوعاته. وقبل عام وجدت الكتاب ذاته في طبعة أنيقة, وإخراج جميل, فاشتريته, وأعدت قراءته بإمكانيات, ليست كإمكانياتي قبل خمسة عقود، وبانفتاح، واستنارة، وقبول للرأي, والرأي المضاد.
فتبين لي أن الفلاسفة اللاهوتيين, والماديين يضربون في فجاج التيه، وأنهم بعد تهويماتهم، وتحويماتهم يعودون كما بدأوا، مثقلين باليأس, والإحباط, ومزيد من الشك، والجهل.
وتَرَسَّخ في ذهني أن (المعتقد السلفي) المستنير أسلم, وأحكم، لأنه يقوم على التلقي من المصادر التشريعية, قبل أن تتلبس بالتأويلات الفاسدة، والتفويضات المطلقة.
والإيمان بتأويل النص، وتفويضه ليسا مطلقين. فالإنسان مخاطب بلسان عربي مبين, وواجبه حسن التلقي، ودقة التحرك، وامتلاك ناصية اللغة، بكل معطياتها الوضعية، والمجازية، والسياقية.
ومن المعلوم بالضرورة أن الباري جلَّ وعلا لا يُمَثَّل، ولا يُشَبَّه، ولا يُعَطَّل, وإن آمن المتلقي بما ورد، لأن إيمانه مرتبط بمراد المشرع.
على أن مطلق التفكير خارج عن إرادة الإنسان, ومن ثم يحدو به إلى التساؤل:(عمن خلق الله). وقد خفف الله عن الصحابة الوجلين بقوله {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (286) سورة البقرة
الفلاسفة حققوا بجدلهم البيزنطي مقولة:(رب ضارة نافعة). لقد حدت تخبيصاتُهم الفكرَ المعتدلَ إلى التصدي لشطحاتهم, والإبانة عن ضلالاتهم. وتحديد الموقف السليم من عالم الغيب.
وصراع الأفكار وسَّعَ المجالات، وأصل المعارف, وحرر المسائل, وأثرى المشاهد، وأثبت أن (الحضارة الإسلامية) أسهمت بشكل واضح في صناعة (الحضارة الإنسانية) بكل أبعادها الفكرية، والفلسفية.وحيث إنها وسعت القبول، والرفض فإنها امتلكت ناصية الفلسفة, والفكر. وإن رغم نفات ذلك.
الخاسر في هذا الصراع الفلاسفة اللاهوتيون، والمتكلمة المجازفون من عرب, وعجم. ذلك أنهم ماتوا, وفي نفوسهم شيء مما يقولون.
والذين أدركتهم العناية الربانية، تبرؤوا مما قالوا, حتى قال قائلهم:- اللهم إيماناً كإيمان عجائز نيسابور.
ويَبْقى التوتر, والشك قرينا من يفكر بـ(الذات الإلهية), ولا يفكر في آياتها الباهرة {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الذاريات, وفي الأثر (تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في ذات الله).