ياسر صالح البهيجان
الرؤى الاقتصاديّة في النظم الرأسماليّة أخذت تتّسع في ضوء التحولات الاتصاليّة الناتجة عن الثورات التكنولوجيّة المتجددة، وبدأت بإيجاد أسواق جديدة ذات مفاهيم غير مسبوقة تنطلق من الثروة المعرفيّة لدى الإنسان، حتى استحال الفرد إلى سوق متنقّل بحد ذاته، قادر على إنتاج السلع واستهلاكها في آنٍ واحد عبر ما يُعرف بـ»سوق المعرفة».رأس المال الفكري لأي فرد في المجتمع قابل لجعله سلعة خاضعة للعرض والطلب، انطلاقاً من تحديده لاحتياجات المستهلكين في مجتمعه، وتنميته لقدراته في المجالات الحيويّة، ليُنتج بناء على ذلك معرفة نادرة ونموذجيّة تتأسس على إدارة وتنظيم المعلومات وإعادة إنتاجها بما ينسجم مع حقوق الملكيّة الفكريّة.
سوق المعرفة على علاقة وثيقة بـ»اقتصاد الاهتمام» وهو الاقتصاد الذي يُعنى بتحويل اهتمامات الناس المعرفيّة إلى سلعة لها احتياجها الفعلي، وأكثر المستفيدين من هذا النوع الاقتصادي هي المؤسسات الإعلاميّة التي تنطلق منه لتطوير جودة محتواها وقياس مدى اهتمام القرّاء بما تنشره، لتعيد بناءً على ذلك استراتيجيّاتها وأولويّاتها في تحديد القضايا المنشورة في صفحاتها، وفي الغالب تتخذ من زيادة المبيعات أو تراجعها مؤشراً على جودة المحتوى أو رداءته، إلا أنه يظل اقتصاداً بإمكان الفرد المستقل الانخراط فيه ليؤسس لذاته مشروعاً فكرياً قائماً على معارفه.
ويفترض مفهوم سوق المعرفة أن العالم اليوم غني بالمعلومات إلا أن هناك جزءا منها لا يزال غائباً، وإظهار ذلك الغياب بوصفه شيئا نادراً وغير مطروح هو ما يجعل من تلك المعلومات سلعة تجذب المستهلكين إليها، وهي بذلك ترى بأن كل إنسان يحمل في عقله فرصته الوظيفيّة متى ما استطاع توظيف معارفه بناءً على نوعية الطلب في السوق، مستفيداً مما تقدمه الوسائل التقنية الحديثة من منصّات تفاعليّة في معرفة اتجاه المستهلكين والتسويق لمنتجه المعرفي.
هذا المفهوم تنبهت إليه قبل سنوات قليلة المجتمعات المتقدّمة، وبدأت بتنميته لدى شريحة الشباب لإيجاد فرص وظيفيّة تنطلق من معارفهم، وتوفّر لهم مصدر دخل لا يقل عمّا يتقاضاه الموظفون في القطاعين العام والخاص، فضلا عما تمنحه للفرد من إمكانات لتطوير ذاته، وصقل مواهبه ليس بوصفها هواية أو متعة بل لتسليعها وطرحها في السوق كغيرها من المنتجات الاستهلاكيّة.
آلاف العاطلين عن العمل في المملكة يمتلكون مؤهلات وقدرات ذات جدوى اقتصاديّة، لكنهم لم يخضعوا للتأهيل الملائم الذي يجعلهم قادرين على تحويل رأس مالهم الفكري إلى سلعة قابلة للاستهلاك، إضافة إلى أولئك الذين يشغلون وظائف لا تنسجم مع تخصصاتهم ومعارفهم النادرة التي بإمكانهم الاستفادة منها لإيجاد دخل إضافيّ يحسّن من مستوى حياتهم، وقبل هذا وذاك يخسرُ كثيراً اقتصادُنا الوطني في ظلِّ غياب فكرة سوق المعرفة التي من شأنها أن تُوجِد أجيالا عاملةً ومنتجةً تعزِّز من نموّه وتضاعف أعداد القوى العاملة فيه.