د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ثالث هذه الاعتبارات: الأسلوب الذي يُقدَّم بواسطته الفكرة المخالفة، والطريقة التي يُعرض من خلالها الرأي الآخر، إذ يَفترض المثقف أن يكون صاحب الفكرة المخالفة على قدرٍ عالٍ من الأدب والأخلاق والتواضع، وهي صفاتٌ لازمةٌ لمن أوتي نصيباً وافراً من العلم والثقافة، ومن ثمَّ فإنَّ هذه الأخلاق لا بُدَّ أن تنعكس على أسلوبه وطريقة عرضه، وكلما كان الأسلوب أكثر أدباً كانت الفكرة أدعى للقبول وأحرى باحترامها ومناقشتها مهما كانت درجة الاختلاف معها، وفي المقابل فإنَّ احتمالات قبول الفكرة المخالفة تتضاءل حين تُعرض بأسلوبٍ ساخر، ينقصه الاحترام للرأي الآخر، أو بطريقةٍ متعاليةٍ، بحيث ينظر صاحبها إلى المخالفين بازدراء واحتقار، ضارباً بقيم الحوار وآدابه عرض الحائط، ظناً منه أنَّ ذلك مما يقوي فكرته ويدعمها، ويضعف الرأي الآخر ويوهن الفكرة المقابلة.
وهنا ينبغي في رأيي ألا ينجرَّ المثقف إلى تضييع وقته في الردِّ على فكرةٍ عُرضت بهذا الأسلوب؛ لأنه من العبث الحوار مع أصحاب مثل هذه الأساليب، والمثقَّف الواعي الخبير يعي جيداً من خلال تجاربه واطلاعه أنَّ أصحاب النظرة الدونية الذين يتلبَّسهم الغرور والكبر لا ينفع معهم حوارٌ ولا جدال، ولا أرى موقفاً أفضل وأنسب مع فكرةٍ مخالفة عُرضتْ بأسلوب الاستنقاص والسخرية والازدراء إلا التجاهل، فالأدب والأخلاق والاحترام ينبغي أن تكون عتباتٍ مهمةً للدخول في أيِّ حوار أو جدال، ودونهما ينبغي للمثقف أن ينأى بنفسه وبأدبه وأخلاقه عن خوض أيِّ نقاش.
أما رابع هذه الاعتبارات فهو مستوى جماهيرية الفكرة المخالفة، وحجم التأييد الذي يلقاه الرأي الآخر، ومدى قبول المجتمع لما يطرح من رؤية مغايرة، وهذا الاعتبار خاصة يمكن أن يسهم في حجم تفاعل المثقف مع المشكلة، وكيفية معالجته للقضية، إذ إن بعض الرؤى والأفكار المخالفة قد لا يكون لها ذلك الانتشار بين الجمهور، كأن تكون ساذجة أو ضعيفة واهنة إلى درجة أنها لم تقنع أحداً من المجتمع، أو أنها بعيدة كل البعد عن اهتمامهم، إذ إن الاختلاف فيها لا يشكل أمراً ذا بال بالنسبة لهم، أو أن صاحبها أضحى معروفاً بالإثارة وحب الشهرة والاستفزاز فلم تعد حيله تنطلي عليهم، إلى غير ذلك من الأسباب التي يجب أن تجعل المثقف غير متحمس في الرد عليها ومعالجتها، فإن فعل فلا ينبغي عليه أن يعطيها أكبر من حجمها، فيضيع وقته وجهده وفكره في غير فائدة.
إنَّ الأصل في الأفكار المخالفة احترامها وتقديرها، وبسط طرق الحوار معها للوصول إلى الحقيقة المقنعة التي يفترض أنَّ الجميع يبحث عنها ويسلم بها، غير أنه لا بد أن ندرك أننا في زمن بلغ فيه الانفتاح الاجتماعي إلى أقصى مستوياته، إذ صار الجميع -باختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية والعمرية- قادراً على عرض أفكاره ورؤاه، ثم استحضِر طبيعة النفس البشرية في حبها للشهرة والتميز، ومن ثم فليس من المعقول أن يتفرَّغ المثقف للرد على كل مخالف، والحوار مع أي فكرة مضادة، أيا كان قائلها، ومهما كانت سذاجتها.
إن موقف المثقف من الأفكار المخالفة ينبغي أن يكون عقلانيا، فلا يتجاهلها بحجة أنها لا تستحق الرد، أو اعتقاداً أنه بذلك يجعلها تموت في مهدها، ولا يتشنَّج في محاولة إقصائها ويأخذه الحماس في تفنيدها، بحيث يسطر المقالات ويصفف التغريدات للرد عليها، بل عليه أن يكون وسطاً في ذلك، بحيث ينظر إليها من خلال تلك الاعتبارات التي أرى أنها ستساعده في اتخاذ الموقف المناسب منها، وتجعل ما يطرحه من أفكار وردود مقبولاً مقنعاً، بأسهل طريقة وأقل مجهود.