إضاءة :
النسيان ليس شيئا تقوم به.. بل هو الشيء الذي لا تقوم بفعله. النسيان ليس أن تنسى، بل ألا تعود تتذكر !!
***
حدث ذلك معه فعلا ذات مساء بعيد، في مطعم واسع وأنيق يطل على روما من علو، قريبا من حدائق (التيفولي) الرائعة، وحين كان هو ومجموعته السياحية يجلسون إلى طاولتهم الممتدة، ينتظرون طعام العشاء مستمتعين بأجواء المكان، وصوت تلامس الكؤوس يترافق مع تراقص أضواء الشموع، وهمسات رواد المطعم وابتساماتهم تتصاعد من الطاولات العديدة لتكوِّن صوتا واحدا ينشر البهجة في المكان، مختلطا مع أنغام من موسيقى تقليدية تنبعث من آلة أوكارديون بعيدة، بينما جرسون إيطالي مسن ينتقل بين الطاولات بخفة، وابتسامة عريضة ممازحا الزبائن مشيرا إلى بعضهم بإصبعه ومرددا:
(مافيا.. مافيا)
ظهرت أمامه فجأة كما يتجسد حلم بعيد بأبهى صور الحضور، كانت ضمن مجموعة أخرى على الطاولة المقابلة لطاولته، من النظرة الأولى غمره حنين جارف، شوق لا يمكن تصوره لوجه امرأة لم يره من قبل، إحساس بألفة غامرة مع ذلك الوجه الأسمر والشعر القصير.
إحساس بأن سعادة الكون كلها ستكون له، لو أن صاحبة ذلك الوجه كانت بقربه، وأن حزن الكون كله سيعوي داخله، وتعاسة كل الأزمنة سترافقه إن كان بعيدا عنها !! كان يعرف أنه مثلما رآها أمامه فجأة فإنه بعد ساعة أو ساعتين لن يعود ليراها ثانية، وأنه لا يمكن أن ينشأَ أي شكل من أشكال العلاقة بينها !!
وهو ما جعل شعورا آخر يتسرب إليه بينما كان ينظر إليها تتحدث مع الرجل الجالس قبالتها، شعور بالفقد الموجع يترافق مع إحساس غامر بعبثية الحياة!!
الحياة التي يمكن أن تريك فجأة وفي لحظة عابرة الوجه الملائكي للمرأة الذي كنت تحلم به طوال حياتك، لكنها تقول لك في الوقت ذاته إن ذلك لن يدوم سوى لحظات، تفقده بعدها إلى الأبد، إنها تشعل النار داخلك، تقول لك إن ما كنت تظنه حلما موجود في الواقع، موجود حقيقة، لكنه ليس لك !!
وأبدا أبدا لن يكون لك !!
- محمد الدخيل