محمد عبد الرزاق القشعمي
كنت معتاداً مع مجموعة من الأصدقاء على ارتياد مجلس أستاذنا الراحل عبدالكريم الجهيمان - رحمه الله - منذ عشرين عاماً بعد مغرب أيام الاثنين من كل أسبوع، وبعد وفاته مطلع عام 1433هـ واستقرار الشيخ محمد الناصر العبودي في منزله بالرياض بعد تقاعده من عمله الرسمي في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، خصص موعداً في منتصف العام المذكور للقاء تلامذته ومحبيه وهو الموعد الذي سبق أن اعتدنا فيه على لقاء الجهيمان بين صلاتي المغرب والعشاء من أيام الاثنين أسبوعياً. فكنا نتسابق للجلوس بالقرب من مقعده لنستمع إلى حديثه وليسمع تعليقات وأسئلة من يريد المداخلة أو الاستفسار عمَّا يخطر بباله من الحديث الذي يسترسل به الشيخ العبودي, فأصبح المجلس يضيق برواده وأخذ عددهم يزداد بين وقت وآخر، ويتوقف في الإجازات الرسمية والأعياد، وسريعاً ما ينتظم جمعها باتصال متبادل بين مرتادي هذا الملتقى المفضل، فبدأ الشيخ العبودي يأنس بنا ونأنس به ويفتقد من يتأخر عن الحضور بعد أن داوم عليه، ويتفقده لو كان مريضاً ويسأل عنه ويسأل الله له الشفاء والعافية .
حتى إن البعض يحس بأن أيام الأسبوع قد طالت وبعُدَ يوم الاثنين منه، على الرغم من معرفة الجميع أن الشيخ لا يبخل بوقته فهو دائم الاشتغال بالكتابة أو القراءة في جميع أوقات يقظته ما عدى أوقات الصلاة أو تناول وجبات غذائية متواضعة يقمن صلبه .
وفي الموعد نجد استعداد مضيفنا ابنه البار المهندس ناصر في استقبالنا وقد أعد المكان وجهز الضيافة من قهوة وشاي وفطائر وتمر وماء .
أصبح يلتقي في مجلسه العامر كثير من الأدباء والعلماء والباحثين وحتى القضاة والصحفيون وطلبة العلم لا يقل عدد من يحضر ملتقاه الأسبوعي عن الخمسة والثلاثين شخصاً وقد يزيدون إلى الخمسين أو أكثر .. وقد وضعت في مجلسه الكبير كثير من الكراسي المفردة السهلة الإفراد والطي لو زاد العدد عما في مجلسه من مقاعد معدة سلفاً.
ذكر بعضهم أن صوته لا يسمعه من لم يتمكن من الجلوس بالقرب منه، ولهذا فقد أحضر مكبر صوت لم يستمر إذ لم يستسغه، فاكتفى بالممكن .
كثيراً ما يبدأ الجلسة تلميذه الوفي الدكتور محمد بن عبدالله المشوح بذكر بيت من الشعر أو حادثة له ذكر أو رأي بها، أو سؤال عن إحدى الدول أو المدن التي زارها، فيبدأ الشيخ مسترسلاً بما شاهده أو سمعه أو حفظه من قصص أو قصائد عن الموضوع ذاكراً الأسماء والتواريخ بدقة، قد يعلق أو يضيف أحدهم فيستمر السجال حتى نهاية الجلسة، أو قد يقف لينتقل لموضوع آخر، أو قد يحضر أحد من أجل السؤال عن أحد أجداده الذين سبق ذكرهم في أحد كتبه، وقد يحضر أحدهم أحد الكتب والمراجع ليتأكد من صحة ما كتب من خلال ذاكرة الشيخ العبودي، وهناك بعض المهتمين يسجّلون كلامه كتابياً وصوتياً بهواتفهم النقّالة وغير ذلك .
أذكر أن جلسة الاثنين الخامس من شهر ذي القعدة هذا العام 1437هـ قد خصصت للحديث عن جمهورية جزر المالديف، فاستفاض في الحديث عنها وقال إنه زارها ثلاث مرات إحداها بدعوة رسمية من رئيسها الشيخ مأمون عبدالقيوم، وذكر عدد الجزر وعدد السكان وعاداتهم وتقاليدهم وحبهم للعرب والإسلام، وأن لغتهم فيها كثير من المفردات العربية، وعن مستوى المعيشة، وعن أنواع الأسماك وذكر نوعاً يسمى (باي باي قول) وهو يوصف لمن يشكو من ضعف جنسي فهو يزيد من الرغبة في الجنس وغير ذلك، وعاصمتها (مالي) .
وقد ألف كتاباً عن هذه الجزر وأهداه بقصيدة لرئيس جمهوريتها نختار بدايتها:
(مَلْدِيفُ) يا حُلم الزمان الغافي
يا دُرّة الغَوّاص في الأصدافِ
أنتِ التي إخترت دين محمد
وتركت طوعاً باطل الأسلافِ
منح الإله مواطنيك طبيعةً
رقراقة كالسلسبيل الصافي
وخلا من الحرب الضروس سجلهم
فغدوا عديمي المثل في الإنصاف
واختتمها بقوله:
أُهدي إليك كُتيباً ألّفْتُهُ
في حضنك البَرِّ الحنون الضافي
حييتني بتحيةٍ فرددتها
بتحية من أسْطُرٍ وقوافي
ويذكر أن جميع سكان تلك الجزر مسلمون بلا استثناء، وأنهم قد أسلموا في القرن السابع عن طريق الداعية أبا البركات البربري الذي قدم من المغرب ورآهم يعدون إحدى فتياتهم ويزينونها ليهدوها للعفريت الذي يأتي لهم سنوياً ومعه فيضان البحر ويهددهم بهدم منازلهم وتجريف مزارعهم، فطلب منهم هذا البربري الداعية أن يقدّموه للعفريت بدل الفتاة، وكان في العادة يجري وضع الفتاة بعد تجهيزها في غار أو منزل قديم مهجور فيأتي العفريت ويفترسها، وفعلاً وافقوا على طلبه، فجلس طوال الليل يقرأ القرآن ويدعو، فلم يحضر العفريت، ولم يتعرضوا للغضب من خلال الفيضان، فآمنوا بما جاء به وصدقوه وأسلموا عن بكرة أبيهم بلا إكراه أو قوة، وقال أن الملك سلمان قد تبرع لهم ببناء عشرة جوامع في عشر جزر من أكبر جزر الدولة. وقال: إن النساء لهن مساجد خاصة ولا تميز عن مساجد الرجال إلا أنه ليس بها محاريب.
ويتكلم المالديفيون لغة خاصة بهم تسمى المالديفية، وهي لغة محصورة بهم ، وقال أنها مأخوذة من اللغة السنسكريتية التي هي اللغة الهندية القديمة .
هذا الحديث استمر لمدة ساعة تخلله بعض الطرائف والنكت المحببة والملطفة للجو ومنها ترشيح أحدهم للذهاب إلى هناك لإحضار السمك المحفز للجنس فاشترط أحدهم ألا يقل عمره عن أربعين سنة لكون الحضور من كبار السن، وقال إن الخطوط السعودية قد فتحت خطاً مباشراً من المملكة إليها.