المشهد الذي يرسمه تشومسكي يشير إلى قرار ويلسون والطغمة الحاكمة معه، الاشتراك في الحرب الأولى التي أشعلت لتقسيم العالم، ولم تبق الولايات المتحدة متفرجة على تقسيم الكعكة دون أن تكون لها حصّة، حتى لو كان ذلك على حساب دماء (الجمهور) الأمريكي.
كما أن النهوض الجماهيري الأوروبي في ذلك الوقت هدد بسقوط النظام الرأسمالي كله، وليس في أوروبا وحدها، والذي بدأ في روسيا عام 1917. من هنا تأتي أهمية السيطرة على الوعي الجماهيري وتسيير (القطيع) كما يسمّيه الرأسمال –حسب تشومسكي – بالاتجاهات التي تريدها المافيا الرأسمالية.
النجاح الباهر الذي أحرزته لجنة كريل لم يقف عند تحويل (الجمهور الأمريكي) من مسالم إلى محارب، إنما فتح أفقاً جديداً للسيطرة على وعي ذلك الجمهور وتسييره لمصلحة الطغمة الحاكمة وليس للصالح العام.
يقول تشومسكي في نفس الكتاب تحت عنوان (العلاقات العامة): (تعد الولايات المتحدة رائدة صناعة العلاقات العامة، ذلك أنها التزمت مبدأ السيطرة على العقل العام –على حد تعبير قادتها- الذين تعلموا الكثير من النجاحات التي حققتها لجنة كريل وكذا النجاح في خلق «الذعر الأحمر» والعواقب التي خلّفها).
(الخطر الشيوعي) و(الخطر السوفيتي) الذي استخدمته الآلة الإعلامية الأميركية هو المقصود بالذعر الأحمر. ولم يبق ذلك الذعر الأحمر يعيث فساداً في العقل العام للجمهور الأمريكي وحسب، إنما شمل جهات العالم الأربع، وأصبح (العقل العام لجماهير البشر كافة) تحت سيطرة وتوجيه الإعلام الأمريكي ومن يدور في فلكه.
أعتقد أن تشومسكي هنا لا يقصد العقل العام وحسب، إنما الوعي العام الذي يشمل العقل والإحساس، حيث يشترك الإعلام مع السينما والمسرح والمسلسلات التلفزيونية والفن التشكيلي والأغنية وغير ذلك، لإفراغ الوعي من الهمّ الاجتماعي الوطني والقومي والأممي وإبعاده عن اكتشاف الحقيقة ومنعه من مقاومة الظلم.
لقد ربتنا (آلة صناعة الوعي) الرأسمالية منذ نعومة أظفارنا على أن الشرّ آت لا محالة من (الخطر الأحمر)، والخير يأتيك من البطل الأمريكي الذي يمتلك القدرة الخارقة - وهو شخص واحد - على تغيير مصير أمّة كاملة دون أن يصاب بخدش وكأن الرصاص يتحاشاه كما الوطاويط.
وتربينا على أن القاتل المأجور هو بطل أيضاً لأنه يقتل الأشرار حتى لو قُتِل في نهاية (الفلم الأمريكي) تفادياً لكشف من وظّفه من المافيا الحاكمة.
أما في عصرنا فقد استأجرت المافيا الأمريكية مئات الآلاف من القتلة المأجورين – ممن تربوا وتغذوا من هذا الإعلام المافيوي - لتفجير حرب عالمية ثالثة، تذبح وتدمر الحجر والبشر والشجر في محاولة محمومة لاقتلاع جذور الحضارات وتزييف التراث وإيقاف التغيير.
المنهج التضليلي في الإعلام الأمريكي انتشر كالنار في الهشيم في الدول الصناعية أولاً، والدول غير الصناعية المنضوية تحت لواء الولايات المتحدة الأمريكية ثانياً، ثم نصبت المخابرات الأمريكية نفسها قائداً عالمياً لهذا النهج المافيوي في الإعلام.
بعد مشواره المافيوي منذ بداية القرن الماضي أصبح الإعلام اليوم سلاحاً أشدّ قسوةً من السلاح الناري، لأنه يدسّ السموم في الحقائق أو يغيبها كلياً من أجل هدف واحد هو غسل الأدمغة وصناعة التطرف. ولكن الطرف الآخر في المعادلة الذي يحاول إيصال الحقيقة وكشف الزيف، والذي لا يسيطر سوى على 5 % من الإعلام تقريباً لم يتخذ الخطوة الضرورية بعد لعمل توازن إعلامي كما التوازن العسكري بالرغم من تفوقه في الفضاء.
- د. عادل العلي