جاءت مقالتي السابقة تحت عنوان: «المثقفان والأخلاق» ومرَّ معنا فيها قول أديب سويسرا وفيلسوفها الكبير جان جاك روسو: «إن المعرفة لا تولّد الأخلاق, والأفراد المثقفون ليسوا بالضرورة أناسًا صالحين».
وأريدكم اليوم أن تفترضوا أن أحد المثقفين الذين يقصدهم روسو بكلامه استمع أو قرأ كلام روسو، ثم افترضوا أن هذا (المثقف غير الصالح) عَلِمَ أن روسو يقصده وأمثاله بكلامه، ثم افترضوا أننا أعطينا هذا المثقف الفاسد -في نظر روسو- حرية الرد والتعليق على كلام روسو، فماذا سيقول؟!.
أعتقد أنه قد يطرح على روسو سؤالين هما:
1 - لماذا يجب على المثقف أن يكون صالحًا؟!
2 - ما معنى الصلاح الذي تقصده يا روسو في كلامك؟!
لو فكرنا بعمق في السؤال الأول وبحثنا عن إجابات له، فسنصل إلى نتائج، منها مثلاً أن المثقف يجب أن يكون قدوة للناس.. أو: المثقف يجب أن يلتزم بتوجيهات الدين. أو: يجب أن يكون المثقف صالحًا لأنه من أكثر الناس قدرة على تصوّر المكاسب التي سيجنيها هو -بوصفه فردًا في المجتمع- عندما ينتشر الصلاح والخير والفضيلة والأخلاق الحسنة، من باب: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك. ولكن: هل هذه الإجابات دقيقة وصائبة حقًا؟ أم أنها اسطوانات مكررة اعتدنا ترديدها فقط؟.
هل الصلاح والالتزام بالأخلاق التي يزعم الكثيرون أنها حسنة مفيد دائمًا ويحقق السعادة والنفع والاستقرار للمثقف الذي يعيش -مثلاً- في مجتمع تنتشر عند غالب أفراده سلوكيات مضادة فاسدة أو لا أخلاقية أو سيئة أو سمّوها ما شئتم؟!.
ألا يمكن أن يكون هذا سبب تعاسة وألم؟! نعم، عندما يضغط المثقف على نفسه ليكون دائمًا في صورة الإنسان الصالح المتسامح المثالي الطيب الخلوق المؤدب المحترم الراقي، وهو محاط بآلاف مؤلفة من الفاسدين والمؤذين والمنحطين والمجرمين والمنحرفين والسيئين وغير الصالحين؟!
هل سيستفيد؟ هل سيكون سعيدًا؟! هل سيأخذ نصيبه من الحياة كما يأخذه غيره؟.
أم أنه سيكون ضحية لثقافته التي أوهمته أنه يجب عليه أن يكون على شكل أخلاقي معين يجعله يُستغل من الذين لا يرقبون في أمثاله إلًاً ولا ذمّة، فيقع فريسة سهلة لمن يسيء إليه وينتهك حقوقه ويضره، بصور كثيرة يصعب حصرها.
وقبل ذلك: هل البشرية أصلاً من بداية ظهورها وحتى اليوم، بكل قادتها وحكمائها وعظمائها وأنبيائها وفلاسفتها وشعرائها وخطبائها وكتّابها ومعلميها وتعاليمها.. هل هي في طابعها الغالب ومسارها العام أخلاقية فاضلة نبيلة خيّرة صالحة، أم أن العكس هو الصحيح؟!
إذا كان العكس هو الصحيح؛ فلماذا يتوهم البعض أن الواجب على المثقف أن يُجهد نفسه بالسباحة المتعبة عكس التيار؟ أترك لكم حرية التأمل والحكم على ما سبق.
وأنتقل إلى السؤال الثاني: ما هو الصلاح الذي تقصده يا روسو؟!
الصلاح الذي يقصده روسو ليس ما يعتبره صلاحًا بعضُ المثقفين، الذين يرون أنفسهم في قمة الصلاح، مع أنهم في نظر الكثيرين مجرمون ومنحطون وفاسدون وسيئون!!
خذوا مثالاً: غالبية الدواعش هم من الجهلة الذين سهل التغرير بهم فتحولوا إلى وحوش لا أخلاقية مجرمة؛ ولكن في «داعش» بعض الأشخاص الذين لا نستطيع إخراجهم من دائرة الثقافة بمعناها المتعلّق بسعة المعرفة والاطلاع، فمنهم -مثلاً- من حصل على الماجستير والدكتوراه!.
استمعتُ وقرأتُ لبعضهم من المنتشرين في أجهزة «داعش» الإعلامية والقضائية والتعليمية، الذين يرون الانخراط في صفوف تنظيمهم الضال -في نظرنا- قمة الصلاح والخير والفضيلة والرقي الأخلاقي. والحقيقة أني لم أجد في هذا العالم مثالاً أوضح منهم للاستشهاد على موضوع نسبية الأخلاق.
فالأخلاق والصلاح والفساد والفضيلة والرذيلة والخير والشر... كلها كانت وما زالت وستبقى عندي نسبية لا ثابتة، وبالتالي فالكثير من المثقفين الذين يرى روسو وأمثاله أنهم فاسدون وبلا أخلاق.. الكثير منهم صالحون وأخيار وفضلاء في نظر أنفسهم؛ لأنهم يملكون الكثير من المبررات والتعليلات والحجج التي بنوا على أرضها قناعاتهم السلوكية والأخلاقية.
- وائل القاسم