ما الذي يجعل فولتير يطلب من محاوره تعريف مصطلحاته قبل بدء الجدل بينهما ؟!
و ما الذي جعل طه عبدالرحمن يهتم بالتأثيل في مشروعه الفلسفي ؟!
و ما الذي حثَّ عبدالله العروي على الاهتمام بالمفاهيم في سلسلته (مفهوم الأيديولوجيا – مفهوم التاريخ – مفهوم الحرية) ؟!
كل هذا جاء باستحضار إشكال المصطلح و مدى أهميته في التفكير الفلسفي، لذا فإن الاهتمام بالمصطلح شرحًا و فلسفةً
ومقارنةً ما هو إلا لب التفلسف و إيحاء بعمق معرفي لدى المفكر.
فأكثر ما يشتغل عليه الفيلسوف هو إبداع المصطلح و محاولة فلسفته وتركيبه ضمن الفكر الإنساني السابق، منذ المحاكاة لدى أفلاطون حتى التفكيك لدى دريدا؛ و ما عمل الفيلسوف إلا إبداع هذه المفاهيم التي يفسر علاقة الكون بالإنسان من خلالها. ومع كل ثقافة تبزغ لنا مصطلحات كثيرة سواءً كانت هذه المصطلحات دينية أم غير دينية؛ ولنا أن نفكرفيما نشأ من مفاهيم مع وجود الدين الإسلامي والأديان السماوية قبله؛ و لنا أيضًا أن نفكر فيما ابتدعته الأديان غير السماوية كالبوذية والكنفوشيوسيه، ولنا أيضًا أن نفكر فيما ابتدعه الفلاسفة على مر التاريخ البشري من مفاهيم جمّة يحاولون من خلالها تفسير كل شيء.
ومن خلال هذا الزخم الضخم للمفاهيم التي تنتجها الثقافات فإننا إزاء همّ فكري إنساني يعيشه البشر عمومًا ونعيشه في مجالنا الفكري في السعودية؛ فالفكر في السعودية ليس منتجًا للمصطلح بل هو متلقٍّ له؛ وفي نظري أن هذا التلقي يتسم بنوع من التسطيح للمفاهيم والمصطلحات حتى إنك تجد عموميةً تحيل إلى رخاوة في فهم المصطلح واستحضار تاريخه، ولنضرب على هذا أمثلة تمركز عليها الفكر في السعودية ردحًا من الزمن كمصطلح الليبرالية والسلفية و الصحوة و الانفتاح والاعتدال وغيرها من المفاهيم المفروضة علينا بسبب الشحن الفكري الثنائي الذي عاشته المرحلة الفكرية السالفة.
وحتى نحاول أن نُفلسف التعامل مع المصطلح فنحن أمام منعرجين: أحدهما ينحو تجاه تأريخ المصطلح؛ والآخر ينحو تجاه حاضر المصطلح، وبهذا فإن المصطلح؛ كل مصطلح له نشأة كما أن له تأريخا يتغير من خلاله، وهذا يجعلنا لا نتعامل مع المصطلح باستحضار نشأته دون محاولة فهم ما طرأ عليه من تغييرات في مسيرته الزمنية، وينطبق هذا على الأمثلة السابقة كالليبرالية
والسلفية؛ فالليبرالية كمفهوم واصطلاح لها دلالات بعدد المبادئ التي اُستحدثت في الفكر الإنساني منذ القرن السابع عشر حتى المرحلة الآنية؛ و السلفية أيضًا لها دلالات عند العديد من الفرق و المذاهب الإسلامية منذ نشأتها في القرون الأولى للفكر الإسلامي حتى مرحلة ما يسمى بالصحوة، ولهذا فإنك تستطيع أن تستحدث من الأسئلة حول هذين المصطلحين العدد الكبير جدًا؛ كالسؤال حول علاقة الليبرالية بالماركسية، والسؤال عن علاقات الليبرالية بالعلوم الإنسانية الاجتماعية و السياسية
والاقتصادية و الدينية؛ والسؤال حول علاقتها بالحداثة و ما بعد الحداثة و غيرها من الأسئلة، كما أنك تستطيع أن تستحدث من الأسئلة حول السلفية العدد الكثير أيضا كالسؤال حول مفهومها عند النشأة باعتبار ارتباطه بعقلانية المعتزلة و السؤال عنها حول تحديد زمنية السلف والسؤال حول علاقة مصطلح السلف بفهم النص الديني والسؤال عن ارتباط التيارات الفكرية الإسلامية المعاصرة بالمفهوم القديم، وهكذا فإننا نقبع تحت وطأة المصطلح وقد نكون ضحايا له بفرض سلطته علينا حتى وإن كنا مخالفين له كما يحصل في كثير من فكرانية الليبرالية في السعودية ومنطلقاتهم السلفية.
ولم يعد مشكل المصطلح قاصرًا على الهم الفكري فحسب بل تعداه إلى مجالات كثيرة في العلوم الإنسانية كالأدب والنقد؛
ولنا أن نفكر فقط في النظرية الأدبية حتى نعلم مدى هذا المشكل في حقل النقد الأدبي العربي.
و لعل هذا المقال لن يكون الوحيد والأخير في مناولة مشكل المصطلح؛ لأني أعتقد أننا نعيش إشكاله بشكل مضاعف في مجال فكرنا في السعودية.
- صالح بن سالم
_ssaleh_ @