كم مرة سمعنا هذه العبارة ومثيلاتها تخرج من أفواه بعض أساتذتنا حين كنا طلاباً على مقاعد الدراسة!
وكم مرة كانت الأسئلة تحيط بنا من كل جانب، حول العديد من القضايا الجدلية، فلا نستطيع طرحها خوفاً من القمع والتوبيخ!
لا يوجد عقل بلا أسئلة يا أساتذتنا الفضلاء!
وكلما كثرت الأسئلة دونما إجابة؛ أصبح التمرد الفكري غير المنضبط أمراً محتوماً، وهو ما وقع فيه كثير من النابهين الذين افتقدوا لمن يتفهم تمرد عقولهم ويساعدهم على الوصول للإجابات المقنعة، كانوا يبحثون عن أسئلة البدايات، فتاهوا في بنيات الطريق.
التفكير في بعض الوقائع البسيطة جداً يجيب أحياناً عن الأسئلة الكونية الأكثر تعقيداً، ويفتح أبواباً واسعة للعلم، فتفاحة نيوتن –مثلاً- لم يكن لها أن توصله إلى «نظرية الجاذبية» لولا سؤاله النقدي البسيط في ظاهره، العميق في باطنه، عن سرسقوط التفاحة من أعلى إلى أسفل وليس العكس! لذا فالذين كانوا يكتبون وهم ساكتون، ربما كانت لديهم أسئلة أكثر عمقاً من سؤال نيوتن هذا، لكنها وئدت في مهدها، وكان بإمكانها أن تغير التاريخ! ولست مبالغاً!
نحن في حاجة ماسة إلى تبني مفهوم «التفكير النقدي» وليس إلى ممارسة «نقد التفكير»، خاصة في هذا الجيل الذي يعاني من أسلوب التلقين في التعليم، ومن الخوف من النقد، ومن تحول مفهوم «الجدية» عنده إلى المعنى السلبي، مع كثرة السخرية من الجادين في هذا الزمن وظهورها بشكل سافر كما لم يحدث من قبل، حتى أصبحت اللطائف والطرائف التي يؤلفها ويتجاذبها الناس عن الطالب الجاد وعن المعلم كافية لأن تخلق جيلاً هزيلاً يعيش على الضحك أكثر مما يعيش على الماء! لا يضيف لنفسه ولا لمجتمعه أي إنجاز، ويبقى عالة على سابقيه وعلى الأمم الأخرى في كل جوانب العلم والمعرفة!
إضافة إلى ذلك، فإن «التفكير النقدي» - بوصفه سلوكاً تعليمياً- غير مرحب به في المجتمعات الأبوية؛ والسبب -في اعتقادي- أن هذا النوع من التفكير بطبيعته يعني نزوعاً إلى امتحان مايسمى بالمسلمات بكل أشكالها، وبحثاً وتنقيباً في المناطق الفكرية غير المأهولة، وكثير منا يخشى على تلك المناطق المحظورة وعلى مسلماته، ولا يخشى منها!
وماذا علينا وعليهم لو تركناهم يفكرون ثم أجبنا عن أسئلتهم؟ فالمجتمع الذي لا يشجع على التفكير النقدي تسود فيه الشائعات ويصبح أفراده عرضة لنقل الأكاذيب والتضليل والتضخيم والتهويل، وهو ما نعاني منه اليوم في حياتنا الاجتماعية والثقافية، وتكشفه لنا وسائل التواصل الاجتماعي، فحتى أولئك الذين حصلوا على شهادات علمية عالية، بعضهم يمكن أن تمرر عليه الشائعات بسهولة ويسر؛ لأنه ببساطة لا يفكر فيها تفكيراً نقدياً، ولا يعرضها على الأسئلة المنطقية التي تساعده على التمييز، وشواهد ذلك جلية، تظهر عياناً بياناً في «تويتر» و«فيسبوك» و«واتس أب» وغيرها..
فما هو التفكير النقدي الذي نحتاجه إذن؟!
بحثت في العديد من التعريفات التي يمكن أن تشرح هذا المصطلح وتربطه بما أريد الوصول إليه هنا، فوجدت أن أنسبها لفكرة هذا المقال هو ما أورده جون ديوي في كتابه «كيف تفكر؟» حيث عرف التفكير النقدي بقوله: «إنه التمهل في إعطاء الأحكام وتعليقها لحين التحقق من الأمر».
إذن، «التمهل» هي الكلمة الأولى التي نحتاج إليها أكثر من أي كلمة أخرى حين نريد البدء في التفكير، وهي الكلمة التي يجب أن نعطيها حقها قبل الشروع في إصدار الأحكام حول قضية ما أو موضوع ما أو شخص ما، وهي الكلمة التي ينبغي أن تتحول إلى سلوك علمي عملي في التعامل مع الأسئلة الأكثر إلحاحاً على عقولنا، لكن الأهم من هذا كله، هو ألا تتحول كلمة «تمهل» إلى «سكوت» كما كان يريده منا بعض أساتذتنا الفضلاء!
- د.حمد الهزاع