أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الاستفادَةُ من البرهان الْمُرَكَّبِ لابُدَّ أنْ يَسْبِقَها وَرَعٌ فكريٌّ؛ وأعني بالوَرعِ أنْ يكونَ الُمفَكِّرُ صادِقاً مع نفسه ومع الآخرين في ابتغاء الحق والجمالِ غيرَ مأسورٍ بالأهواء التي لا حَصْرَ لها.. والشرطُ في التعاملِ مع العقل أنْ لا نطلبَ منه ما هو فوق قدرته مع العلم بأنه المرجِعُ فيما عُلِم: إما في ماهِيَّةِ المعلوم، وإما في الحكم بتعيُّنه أو امتناعه، وإما في احْتمالِه.. ومن شرْطِ التعاملِ معه معرفةُ نظامِه؛ فهو في نتائج أحكامه كالرياضيات في نتائج أحكامها؛ فضرب العدد 9875×9463 قائم على الخِبْرة الحسية المشاهَدة؛ فالآحاد من العدد الأول؛ وهو(5)، والآحاد من العدد الثاني، وهو (3): معلوم أنَّ ضربهما يساوي (15)؛ لأنك إذا عددتَ خمس حُصيَّات ووضعْتَها في عُبِّك مثلاً، ثم عددتَ خمس حصيات مرة ثانية ووضعتها في عُبِّك، ثم عددتَ خمس حصيات مرة ثالثة ووضعتها في عُبِّك، ثم قبضتُ على ما في عُبِّك وعددته بأصابعك واحداً واحداً: فَوَجَدْته (15)؛ فَسَيَحْصُلُ لك بديهية عقلية مكتسبة: أن كلَّ (5×3=15).. وقُلْ مثلَ ذلك عن كلِّ عدد من الأعداد الأولى يُقَابِل عدداً من الأعداد الثانية مثلَ (7 و6)؛ فأنت تتعامل معه معاملةَ الآحادِ.. والأعدادُ إذا كثُرتْ، وعظمت: حصل فيها الخطأ والسهو، ثم يزول ذلك بالمراجعة مرَّاتٍ ومرات.. وهكذا العقلُ يبني كلَّ بديهيةٍ مكتسبةٍ على بديهية سابقة؛ فلابد من مراجعة أحكامِه مثلِ مُراجعتِنا في الأعداد الرياضية .. قال الإمام أبومحمد ابن حزم [ -456هـ] رحمه الله تعالى عن البديهيات: «فما شهدتْ له مقدمة من هذه المقدِّماتِ بالصحة فهو صحيح متيقَّن، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط.. إلَّا أن الرجوع إليها قد يكون من قُرْبِ، وقد يكون من بُعدٍ؛ فما كان من قُرب فهو أظهر إلى كل نفس، وأمكن للفهم .. وكلما بَعُدَتْ المقدِّماتُ المذكورة صعُب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلطُ إلا للفَهِم القويِّ الفَهْمِ والتمييز؛ وليس ذلك مما يقدح في أنَّ ما رجع إلى مقدمةٍ من المقدِّمات التي ذكرنا حقٌّ، كما أنَّ تلك المقدمة حق؛ لا فرق بينهما في أنهما حقٌّ، وهذا مثلُ الأعدادِ؛ فكلَّما قلَّت الأعداد سهُل جمعها، ولم يقع فيها غلط.. حتى إذا كثرت الأعداد، وكثُرَ العملَ في جمعها صعُب ذلك حتى يقعَ فيها الغلط إلا للحاسب الكافي المجيد».. [الفصل 1 /42 / دار الجيل].
قال أبوعبدالرحمن: يحصل ذلك للحاسب غيرِ المبرِّز إذا كرَّر مراراً، واتَّحدَتْ المِرارُ الأخيرة على عدد واحد.. وتحليلُ المعرفة جارٍ على نَسَقِ التحليل النظري لضرب أعدادٍ كبيرة في أعداد كبيرة تحليلاً ينتهي إلى تجربة مشاهدة: يُحقِّق ثلاثةَ مطالبَ ضروريةٍ سأذْكُرها إنْ شاء الله تعالي في مناسبة قادمة.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم؛ وحسبي ههنا الإشارَةُ إلى أنَّ العالِمَ إذا تَعَدَّدت مشارِبُه العلميةُ عن حِذْقِ: فإنه يُبْدِعُ في مادَّةٍ عِلْمِيَّةٍ جديدة؛ وهي مادَّةُ خِدْمَةِ الفنونِ العلميةِ بفنون علمية أخرى؛ فذلك هو الفنُّ الجديدُ مِثْلُ خِدْمَةِ الْمَعْرِفَةِ الْعَقْلِيَّةِ بالمعرفةِ الرياضية ههنا؛ فالمادَّةُ العلميةُ ههنا: مادَّةُ (العقل الرياضي)، والله المُستعانُ.