د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لقد كتبت ونقلت ما يكفي عن رحلة ابن جبير المشهور ولأننا في موسم حج عظيم، أصبح من المناسب الوقوف عند محطة من محطاته الكثير، وانتخاب ما طاب، وناسب المقام وأصاب.
ومن باب التذكير، فإن ابن جبير عربياً أندلسياً اسمه أبو الحسن محمد بن جبير الكناني الأندلسي، وإن شئت فقل الغرناطي، وهناك قول للمؤرخين يزعمون أن السبب في قيامه بالرحلة، وربما يكون من نسج خيالهم، فقد زعموا أن الأمير أبا سعيد بن عبدالمؤمن الموحدين قد عبئه في وظيفة كاتم سره، وأنه استدعاه ذات يوم ليكتب عنه كتابا وهو على شرابه، فمد إليه أبو سعيد قدحاً من نبيذ، فاعتذر ابن جبير وأبى واسترجع، فأقسم الأمير يميناً مغلظة ليشربن منها سبعاً، فشربها صاغراً، ثم ردها أبو سعيد سبعة أقداح من الدنانير، ولهذا أزمع ابن جبير الحج بتلك الدنانير تكفيرا عن خطيئته، وأقام في سفره سنتين، ودون مشاهداته وملاحظاته في يومياته، وهي المعروفة برحلة ابن جبير، وتاريخ الرحلة هو عام 578 هجرية الموافق 1183ميلادية، وكان معه حجاج يرجون ما عند الله، وقد تعجب من بعض تصرفات الولاة الذين لقيهم في أكثر من بلد.
لقد أعجب ابن جبير بصلاح الدين الأيوبي أيما إعجاب، وقد ذكر صاحب كتاب الإعلام فمن حل مراكش وإعجاب، وأغمات من الأعلام وهو العباس بن إبراهيم السملالي، أن الشيخ الأكبر لقي ابن جبير في مراكش سنة 595 هجرية، كما ذكر العبدري الحاجي أن ابن جبير قد مدح صلاح الدين يوسف بن أيوب، وذكره بالله في حقوق المسلمين في قصيدة مطلعها:
أطلت على أفقك الزاهر
سعود من الفَلَكِ الدائر
وعند وصوله إلى مكة المكرمة وصفها وصفاً دقيقاً، كما وصف مناسك الحج والحجاج، وتحدث عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية السائدة في ذلك الزمان، والمذهب الذي كان عليه الشريف مكثر الحسنى أمير مكة، ومن شعره في مكة:
هنيئا لمن حج بيت الهدى
وحط من النفس أوزارها
وأن السعادة مضمونة
لمن حج طيبة أوزارها
وقال أيضا:
إذا بلغ المرء أرض الحجاز
فقد نال أفضل ما أمله
وقال عن مكة:
مكة شرفها الله، لها مشهد كريم، كفاها شرفاً ما خصها الله به مثابة بيته العظيم، وما سبق لها من دعوة الخليل إبراهيم، وأنها حرم الله وأمنه وكفاها أنها منشأ النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي آثره الله بالتشريف والتكريم وابتعثه بالآيات والذكر الحكيم، فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل، وأول مهبط الروح الأمين جبريل، وهي مثابة أنبياء الله ورسله الأكرمين، وهي أيضا مسقط رؤوس جماعة من الصحابة القرشين، والمهاجرين الذين جعلهم مصابيح للدين، ونجوماً للمهتدين.
وقد أشار شيء من التفصيل إلى رحلة الهجرة المشهور لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه صاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ودخولهم في الغار، وقد أورد بعض الخرافات التي كانت سائدة في ذلك الزمان والمرتبطة بالغاز، ومن ذلك أن بعضاً من العامة الجهلاء، يرومون دخوله من الشق الذي دخله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تبركاً به، فيستند المحاول لذلك على الأرض ويبسط خده بإزاء الشق، ويولج يديه ورأسه أولا، ثم يعالج إدخال سائر الجسد، فمنهم من يتأنى له ذلك بحسب قضافه بدنه (نحافة)، ومنهم من يتوسط بدنه فم الغار فيعضه «أي يمسكه» فيروم الدخول أو الخروج فلا يقدر، فينشب ويلاقي مشقه وصعوبة، حتى يتُناول بالجذب العنيف من ورائه، فالعقلاء من الناس يجنبونه لهذا السبب، وسبب آخر يجتنبونه وهو أن يقول بعض عوام الناس: أن الذي لا يسع عليه، ويتمسك فيه ولا يلجه، ليس برشيد، جرى هذا الخبر على ألسنه العامة، حتى عاد عندهم قطعاً على صحته لا يشكون فيه، فيكسوه هذا الظن الفاضح المخجل حزناً وكآبة، زائداً على ما يكابده بدنه من اللز في المضيق وإشرافه على المنية توجعاً، وانقطاع نفسه وبرح ألم، والناس يقولون في ذلك مثلاً «ليس من صعد جبل ثور إلاّ ثور».
أتوقف عند هذا الاعتقاد الخاطئ ومثله كثير، فهذا ليس من الإسلام، فالإسلام أيسر ما يكون، وأبسط مما يظن الجاهلون، فقد رافقت مسيرة الإسلام العظيمة شوائب هنا وهناك، تزيد وتنقص طبقاً لمقدار تلقي العلم الصحيح من متابعة النقية، من كتاب الله وسنة نبيه ومن كرم الله ومنته أن هذه البلاد المبارك قد اجتهدت في تلمس الطريق المستقيم وحادت عن بعض الممارسات والاعتقادات التي ليست من الدين في شيء، جعل الله سبيل الحق سبيلنا، وأصلح أحوال المسلمين وأدام عليهم الأمن والأمان.