تعتبر مستوطنات التعدين الإسلامية، ومشاريع الري والزراعة وبناء القنوات المائية القديمة، ومحطات طرق الحج التي مازالت آثارها باقية إلى هذا العهد من أشهر دلائل الحضارة التي قامت على أرض المملكة العربية السعودية منذ القدم.
وشهدت المملكة العربية السعودية في العصر الحديث العديد من أعمال البحث عن الثروات المعدنية المختلفة بدءاً بالمعادن الثمينة كالذهب والفضة والنحاس ومروراً بالأحجار الكريمة، وانتهاءً بالبترول أو بما يسمى بالذهب الأسود، والتي تعد المملكة ودول الخليج العربي الشقيقة من أكبر الدول إنتاجاً واستخراجاً له إضافة للاحتياطيات الكبيرة التي ما زالت ساكنة تحت أرضها.
هذه الثروات الهائلة لم تكن وليدة اكتشاف بمحض الصدفة، للبعثات الجيولوجية الأجنبية بل كانت امتداداً لأرث تاريخي منذ الأزل تتمثل في العمق الحضاري لهذه الثروات من آلاف السنين، وليس أدنى شك أن المعادن كانت أداة مهمة وركيزة أساسية للتبادل التجاري. إذ كانت معياراً حقيقياً للنظام الاقتصادي سير الدول القديمة في بداية عهدها.
ففي شمال المملكة العربية السعودية ومنذ عصور قديمة، اشتهرت أرض مدين بالمعادن، وعمل أهلها بالصناعات المعدنية كالنحاس والذهب، وقد كان مركزهم في شمال غرب المملكة في المنطقة الممتدة من تبوك شرقاً، وحتى سواحل البحر الأحمر غرباً، وقد كانت مناجم التعدين دلائل استند عليها السكان الذين حلوا في أرض مدين في البحث عن المواد الخام. فعلى سبيل المثال امتد نشاط الأنباط في مجال التعدين، ليشمل معادن النحاس والتركواز في شبه جزيرة سيناء، وأنشأوا الطرق التي تصل بين هذه المناجم ومدنهم الرئيسية في شمال غرب المملكة، ووصلوا إلى استخراج القار من سواحل البحر الميت الذي استفادت منه من خلال المتاجرة بعض الحضارات المجاورة، لطلاء الفخار، والتحنيط وصناعة الأفران المستخدمة في الصناعة بشتى وسائلها، واستناداً لأعمال المسح الأثري الذي قام به قطاع الآثار في المملكة منذ العام 1982م، يلاحظ وفرة مناجم الذهب في المنطقة الشمالية الغربية من المملكة، حيث سجلت أعمال المسح في إقليم الحجاز ما يقارب 29 منجماً ومستوطنة للتعدين يمكن تأريخها إلى الفترات السابقة للإسلام وفقاً للمكتشفات والأواني الفخارية، كذلك توجد مناجم أخرى للنحاس بالقرب من وادي عينونة، وموقع الديسة بمنطقة تبوك، ويرجع تاريخ الموقعين للألف الأول ق. م، وهنالك مواقع أخرى في تبالة والعبلة والعقيق في منطقة الباحة التي تحتوي مجموعة من المناجم التي يمكن تأريخها للقرن الأول ق. م، وهي مواقع لتعدين الذهب والنحاس والحديد، وقد كانت هذه المواقع في الغالب معدة لاستخراج المعدن المصهور على شكل قوالب للتصدير، كذلك تشتهر مدن أخرى في وسط المملكة باستخراج الذهب والفضة، وكانت هذه المدن ذات بنية تحتية كبرى في العصر الإسلامي المبكرة تشمل الأسواق والمباني والمساجد والدور، وورش التصنيع، ومن أشهر هذه المدن مواقع متعددة في منطقة القصيم ومحافظتي القويعية والدوادمي من أشهرها منجم الذهب في موقع حليت والتي أعاد اكتشاف الذهب فيه ترتيب الأسعار وضبطها في الدول المجاورة خلال العصر العباسي قبل ما يقارب الألف عام.
وقد عثرت البعثات الأثرية في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في مواقع متعددة من المملكة على أعداد كبيرة من المصنوعات المعدنية مثل التماثيل المعدنية، واللوحات البرونزية، والمسكوكات، والتي يعود تاريخها للفترات السابقة للإسلام. ويمكن الجزم بأن معظم هذه المصنوعات نفذت محلياً واعتمدت على الخامات المعدنية المستخرجة من المناجم في نطاق هذه المواقع، وثمة شواهد على وجود عدد من الحرف، وصهر وتشكيل المادة الخام، وربما أمنت أيضاً القوالب المصبوبة، على نحو نهائي للتصدير.
وبدون أدنى شك فإن هؤلاء السكان كانوا ذوي خبرة وسعة اطلاع على معادن بلادهم، مما جعلهم يتفوقون في ميدان صناعة التعدين، سواء كان ذلك بالاستدلال على أماكن وجودها، أو استخراجها وتنقيتها من الشوائب، وتصنيعها.
ولعل أشهر الدلائل الأثرية في استغلال هذه المناجم اقتصادياً هي العملات المحفوظة في المتاحف العالمية والعربية والمحلية والتي صنعت في معدن أمير المؤمنين في الحجاز عام 91هـ وكذلك دراهم الخليفة العباسي المهدي في عام 165هـ والتي ضربت في حجر اليمامة التي قامت على أنقاضها مدينة الرياض الحالية، وعملات أخرى في مدينة عثر بمنطقة جيزان، ومحافظة بيشة بمنطقة عسير تعود لنفس الفترة الزمنية.
... ... ...
- عجب العتيبي