فهد الحوشاني
هل ترتد أحياناً إلى الوراء فتفتش في ذكريات عفى عليها الزمن لتعيش معها لحظات منفصلاً عن واقعك! إذا كنت تفعل ذلك (باستمرار) أو تسرد بعض الأحداث الماضية على مسامع الآخرين باستمتاع ومتذمراً من زمنك الحاضر، فكن على حذر لأن بعض المختصين يقولون لك إنّ تلك علامة ليست جيدة ، فـ(النكوص) إلى الوراء والحنين إلى الماضي باستمرار يعني أنك تواجه صعوبات في الحاضر وأنك عاجز عن التكيف معه، وليس لأن الماضي أجمل! ويؤكدون أن سبب تلك المتعة في تذكُّر الماضي هو أن ذاكرة الإنسان ذاكرة انتقائية ، بمعنى أنها ذاكرة خادعة ، أي أنها تنتقي ما هو جميل في الماضي وتجعله في متناول عملية التذكر وتبعد تلك الصور المؤلمة إلى آخر مستودع الذاكرة، فلا يعود بالإمكان استرجاعها بسهولة! ولأن تلك الذاكرة انتقائية فهي تركز فقط على الأحداث المفرحة والجميلة، وهذا سر حنين الكثيرين إلى الماضي لأنها لا تريهم إلا وجهاً واحداً من ماضيهم! ويقول أولئك المختصون إنّ الإنسان هو الذي يحدد كيف يتعامل مع معطيات العصر فيكسبها لصالحه، وأن السعادة هي شيء نسبي! لهذا فإن الحنين إلى الماضي ليس لأنّ ذلك الماضي كان أفضل من الحاضر، فلو تذكرت من عاشوا معك من كبار السن والذين رحلوا عن هذه الدنيا، فستذكر أنهم كانوا يحنون إلى ماضيهم لعدم رضاهم عن الحياة التي كانوا يعيشونها، وهكذا هي الحال مع الأجيال كلها! وأنت تمارس نفس الدور الآن!
وأتذكر هنا مثلاً دارجاً يقول (إذا خسر التاجر فتش في أوراقه القديمة) وهو هنا يجسِّد حال من يشتكي من حاضره، ويعجز أن يتعايش معه، والشكوى من الزمان حالة بشرية عامة تتناقلها الأجيال، مما يعني أنه ليس هناك زمن أفضل أو أجمل أو جيل يتفوق على من بعده، وبنظرة عابره إلى الشعر لوجدنا أن الشعراء وهم لسان حال المجتمعات ملئت قصائدهم بالشكوى من الزمان وأهله! في الشعر الشعبي يقول محمد القاضي:
إلى أبصرت بالدنيا تكدر لي الصافي
تعذر زماني ما حصل صاحب صافي
ويقول بديوي الوقداني:
أيامنا والليالي كم نعاتبها
شبنا وشابت وعفنا بعض الاحوالي
وفي الشعر الفصيح الكثير من الشواهد منها قول الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
وقد ازدهر في العصر العباسي ما يسمّى بشعر (الدهريات) يتضمّن في محتواه الشكوى من الزمان، حيث تنافس شعراء ذلك العصر بالشكوى من الزمان وحوادثه. ويؤكد الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر ومستشار جامعة عين شمس (أنّ هذه الظاهرة تسمّى «نوستالجيا»، وتعني أن ينتشر الشعور بالحنين إلى الماضي على المستوى الفردي وعلى مستوى العقل الجمعي. وأضاف أنّ الفرد عندما يتقدم به العمر فجأة، ويشعر بضغوط الزمن يحنّ إلى مراحل طفولته ومراهقته، وكذلك الأمر على مستوى الشعوب والأمم إذ يرتبط الحنين إلى الماضي بعوامل ومؤثرات عدّة في مقدمتها الإحباطات).