إذا نظرنا إلى الحملات العسكرية التي قادتها بعض الدول في الماضي القريب بهدف الإطاحة بالأشخاص، أو السلطات الحاكمة في دول أخرى، ومنها أفغانستان والعراق وليبيا؛ وجدنا أن هذه الحملات، وإن نجحت في إسقاط الأنظمة في الدول المستهدفة بسبب القوة العسكرية والإمكانات المستخدمة في هذه الحملات، فإنها لم تنجح في إحداث واقع جديد أفضل من الذي سبقه؛ بل أحدثت فراغاً سياسياً نال من استقرار هذه الدول وزاد من بؤسها، عدا عما صاحَب العمل العسكري من دمار وخسائر في الأرواح للطرفين، وما تسبّب فيه من خسائر مالية وسياسية للقوى الغازية. فالقوة العسكرية لا تكفي وحدها في هذا العصر لتقديم النظام البديل القادرعلى إرساء دعائم الأمن والاستقرار في دول تفتقر إلى الأُطر المؤسّسيّة المستقرة القادرة على إفراز مثل هذا البديل، وليس بين أهلها إجماع على البديل المقبول للنظام الحاكم، أو الفئة المسيطرة.
ففي غياب مثل هذه الأطر، أو هذا الإجماع، وغياب القوى الفاعلة على الأرض القادرة على التحرك، ومسك زمام الأمور، وملء الفراغ، فالنتيجة مرة تلو الأخرى كانت الفوضى والانتقال بالدول المستهدفَة بالعمل العسكري من سيء إلى أسوأ، وتحميل الدول التي قادت العمل العسكري وِزر هذا العمل، وتبعاته الكثيرة المتوقعة وغير المتوقعة. فأفغانستان ما تزال مرتعاً للإرهاب رغم ما أُزهق فيها من أرواح، وما أُنفق فيها من أموال وعتاد، والعراق وليبيا أصبحتا مرتعاً له بعد أن كانتا خلواً منه، هذا عدا عن الهجرات البشرية التي تبعت تردّي أحوال هذه الدول؛ فأضافت أعباءً جديدة على الدول الفاعلة.
والأمر لا يقتصرعلى فترة زمنية بعينها أو على دول الجوار وحدها. فإذا عدنا إلى تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام منذ منتصف العقد السادس حتى منتصف العقد الثامن من القرن الميلادي الماضي، وكذلك إلى تجربتها مع كوبا، الدولة الصغيرة المجاورة لها، على امتداد أكثر من نصف قرن خلا؛ فإننا نجد الواقع ذاته يكرر نفسه، وهو أن الغزو العسكري لا يفلح في تقرير الأوضاع السياسية في داخل الدول المستهدفَة، أو في فرض نتيجة محددة لها، بل أن هذه الدولة العظمى لم تستطع في الحالتين المذكورتين من إسقاط النظام الذي أرادت تغييره.
ولعل أبلغ الأمثلة على ما تقدَّم هي تجربة مصر في اليمن في العقد السابع من القرن الميلادي الماضي عندما قرر جمال عبدالناصر أن يتدخل في حرب اليمن الأهلية في إثر ثورة عبد الله السلّال (ثورة 26 سبتمبر 1962) على حكم الإمام البدر آنذاك، فبدأ بإرسال كتيبة واحدة لحماية السلّال، ومع مرور الأيام تزايدت أعداد الجيش المصري في اليمن حتى بلغت نحو سبعين ألف مقاتل، وتكبّد الجيش المصري ما يزيد على خمسة عشر ألفاً ما بين قتيل وأسير ومفقود، هذا عدا عن الخسائر والأعباء المالية التي عانت منها مصر، والديون الخارجية التي تحملتها، والضرائب والرسوم التي فرضتها على المواطنين لمواجهة متطلبات تلك الحرب التي انتهت بانسحاب مصر من اليمن، واتهام السلّال لعبد الناصر بخيانته.
إن القوة العسكرية الخارجية لا يمكنها وحدها تقرير مصير الدول المستهدفة، أو إحلال السلم الاجتماعي فيها، أو صيرورتها كما تريده هذه القوة أن تكون. وإضافة إلى أهمية مراعاة هذا الواقع والتجارب الكثيرة الماضية التي تشهد على صدقه، فمن الأهمية بمكان أيضاً مراعاة الدول الفاعلة تجنب الاستمرار في هذا السبيل، والتمادي به ، بمجرد أنها بدأت فيه.
- زياد بن عبدالرحمن السديري