تحدثنا في المقالة الفائتة عن كتاب الحداثة في ميزان الإسلام وقلنا إن أهم ما يلفت النظر فيه تلك الرؤية الثنائية الحادة للعالم،
و(للذات/ الآخر) حيث الخير كله في جانب والشر كله في الجانب الآخر وهذا يحيلنا إلى فكرة (الفسطاطين) التي استخدمت لاحقا من آخرين. (فاتني أن اشير في المقالة السابقة إلى أن محمد العلي في رده على عوض القرني قدم قراءة أخرى لقصيدة محمد الحربي المشار إليها هناك تفند تلك القراءة الاستعدائية التي قدمها الشيخ عوض للقصيدة).
استخدم الكتاب لغة هجائية حادة وعدائية مليئة بالتعميم والسباب والاحتقار للآخر والكراهية الشديدة له ولكل ما يمت لعالمه بصلة: (ويكفيك للتأكد من ذلك أن تتصفح أي منشور حداثي : شعر أو رواية أو مسرحية أو قصة أو دراسة نقدية، لتجدها تصرخ بقوة وتعلن أنها من نبات مزابل الحي اللاتيني في باريس، أو أزقة سوهو في لندن، عليها شعار الشاذين من أدباء الغرب الذين لا يكتبون أفكارهم إلا في أحضان المومسات أو أمام تمثال ماركس. ص8) (أو من الوجوديين مثل سارتر وعشيقته (البغي) سيمون دي بوفوار، وألبير كامو ص11) فأدباء الغرب الذين عبروا عن ضمير العالم وقيمه الروحية العميقة هم – حسب القرني- من الشاذين الذين لا يكتبون أفكارهم إلا في أحضان المومسات أو أمام تمثال ماركس(!!) والأديبة سيمون دي بوفوار جعلها مجرد (بغي!!) ولا أعلم كيف سمح لنفسه باستخدام هذا الوصف؟! فالبغي لها معناها المحدد لغويا فهل ينطبق ذلك عليها؟!! وبالطبع فليس هذا المكان المناسب للتعليق أو السؤال عما يعرف الشيخ عوض عن ماركس أو الماركسية كنظرية اقتصادية بعيدا عن التبسيط والاختزال!!
لاحظ الكثيرون أيضا أن الكتاب كتب بلغة وعظية لا علاقة لها بلغة الأدب والنقد وهو لم يطلع على ما كتبه النقاد المسلمون القدماء كالقاضي الجرجاني
(صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه) مثلا، ولا حتى على الكتَّاب والأدباء والنقاد الإسلاميين المعاصرين (ولعل أقربهم إليه سيد ومحمد قطب) ليعرف منهجم في التعامل مع الأدب والحكم عليه!! وهي أيضا لغة لا تعي أبعاد ما تتحدث عنه من مسائل أدبية ونقدية متخصصة، لغة اعتبرها البعض أشبه ما تكون بلغة بيان استخباري تحريضي طافح -كما أسلفنا- بالكراهية (ويكفي للدلالة على خسته -يعني بودلير- أن فرنسا على ما فيها من انحلال وميوعة ومجون وفساد، منعت نشر بعض قصائده عندما طُبع ديوانه في باريس سنة 1957م. ص10).
كما عبر الكتاب عن إحساس مبالغ فيه بوجود مؤامرة تحاك على الاسلام أُوكِلَ أمر تنفيذها إلى هؤلاء الحداثيين!!، وكان يبحث في النصوص والمقولات التي يوردها لهم عن أية إشارة ليثبت بها -بعد تأويله لها- تلك المؤامرة، ومن ثَمَّ كانت كل كلمة تقال هنا أو جملة تقال هناك وتحتمل معاني عدة تصدر عن أحد الحداثيين تساق كتهمة تؤكد المؤامرة وتوجب المحاكمة. يقول مثلا ص7– وأرجو المعذرة على طول الاقتباس: (وقد حدد الحداثي الشيوعي العربي غالي شكري في كتابه (الشعر الحديث إلى أين) صفحة 9، الروافد التي غذت بذرة الحداثة (الخبيثة) فقال: «كانت هذه المجموعة من الكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي، لتفسر الحاضر وتتـنبأ بالمستقبل، فالمنهج الجدلي والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع، ثم يفسران أزمة العصر أو النظام الرأسمالي، ثم يتـنبآن بالمجتمع الاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي. أما الدارونية فتتعرف على أصل الإنسان العضوي ثم تفسر كيانه الراهن وتتـنبأ بالسوبرمان. وهكذا الميثولوجية تتعرف على أصل التكوين العقائدي للبشرية، ثم تفسر القلق العقائدي المعاصر، وتتـنبأ بما سيكون عليه حال الإنسانية القادمة، ومعنى ذلك أن رؤيا القرن التاسع عشر هي في جوهرها رؤيا علمية عقلانية تاريخية تستهدف الإنارة الكاملة للإنسان». -ويعقب- وهكذا انتهت الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى دارونية تقول: «بأن أصل الإنسان قرد»، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في الأديان التوحيد...). وهكذا فكل ما يعرفه الشيخ عن الداروينية معلومة خاطئة لم يقل بها دارون يوما (أصل الإنسان قرد)(!!) والميثيولوجية تنكر أن يكون أصل الأديان التوحيد(!!)
نواصل في المقالة القادمة الحديث عن الكتاب.
- محمد الدخيل