د. عبدالحق عزوزي
«اللافاعلون السياسيون» كما أسميهم كثر في دول كالعراق وليبيا وهم يقوضون كل محاولة لبناء وعي سياسي جديد بالمجال السياسي. بدون هذا الوعي لا يمكن أن يكون أي شيء. وبدون تطبيقات فعلية لهذا الوعي في المجال العمومي- السياسي، ستبقى الدول في غيابات المجهول وفي دورات متتالية من الفوضى والمجهول واللاأمن. وإخراج هاته الدول من عنق زجاجة ما أسميه بالتنكر لمسؤوليات المواطنة والعيش المشترك، مسؤولية تاريخية، ويستدعي ذلك جهداً فعليّاً، لا مجرد إعلان نيات أو خواطر أو تركيب أساليب رنانة أو اجتماعات مصبوغة برائحة مرسلين من الأمم المتحدة، ومدوية أو استبدالات لغوية يجد فيها المتفحص اللبيب علامات الانحطاط ما دامت تنتبه إلى القشور وتذهل عن المضامين الحقيقية، فتصور دستور من المستوى الرفيع لم يعد يكفي، فالأمر أكبر من مجرد زرع مبادئ ونشرها... إنه إنتاج ثقافة نكران الذات والولاء للدولة الأم، إنه إنتاج عقل سياسي جديد يؤمن بالمسؤولية التاريخية وبمصير شعوب بأكملها تستحق أن تعيش في عز وكرامة بدل الذلة والمسكنة.
الأحداث المتتالية في العديد من البلدان العربية التي عرفت ابتداء من 2010 احتجاجات عارمة تحولت إلى خريف عربي تملأ صفحات الجرائد والمجلات الدولية وتغطي عناوين الشاشات الدولية، وتصور تلكم البلدان على أنها وستبقى خارج التاريخ... إنه الواقع المزري الذي لا ينتهي. وفي كل الشعوب العربية نخب متعلمة ومتمكنة، منها من سيرت مؤسسات رائدة في دول المهجر ثم رجعت إلى بلدانها، ومنها من وصلت القمم في أبحاثها ومنها من كونت مدارس فكرية وأتباعاً بالآلاف في المعاهد والجامعات العالمية، ولكن عندما يتعلق الأمر ببناء الدولة الحديثة وبناء المجال السياسي العام الجديد في بلدانهم انطلاقاً من أدوات سياسية مسطرة في كتب العلوم السياسية وفي تجارب الأمم، يخرج شياطين الإنس والجن لتقويض دعائم بناء الدول، وليصل المجتمع في بعض الأحيان إلى عهد الجاهلية الأولى. في المنتديات التي كنت أنظمها في فاس دائما ما كنت أستمتع بتدخلات زملاء ليبيين لهم باع طويل في مجالات وتخصصات دقيقة، ونفس الشعور انتابني في ملتقى أصيلا الأخير عندما تدخل ليبيون كثر في مجالات سياسية معقدة انطلاقاً من جوانب تخصصهم الهندسي والعلمي فأجادوا وبرعوا.. ولكن عندما ترى واقع أوطانهم يغيظك حال العباد والبلاد.
إن تثبيت أصول جديدة للمجالات السياسية الجديدة أمر صعب، كما أن التحولات الجديدة قد يعرض الحياة السياسية إلى أزمات جديدة غير قابلة للحل، وقد يقفل مجال السلطة في وجه قوى المجتمع المختلفة إذا لم تضخ حيوية جديدة في النظام السياسي والنظام الاجتماعي بعيداً عن الارتجالية والشعبوية أيّاً كان مصدرها، وإذا لم تصوب العلاقة بين الدولة والمجتمع لتعلو بذلك عن المستوى الفئوي المغلق إلى رحاب الأفق الوطني الحاضن للجميع، وفي تمعننا لتجارب سياسية عربية في السنوات الأخيرة أكبر مثال على ذلك كما هو شأن ليبيا والعراق وغيرهما.
والانفتاح السياسي لا يعني البتة قيادة المجتمعات إلى الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتفتيت وحدة الشعب وإزالة الثقة كاملة من مؤسسات الدولة والمواطن.. كل مجال سياسي قائم على هذه الأسس يحتاج إلى أن تصلي عليه صلاة الجنازة لأن الأساس خاطئ ومهندسي الإنتاج السياسي لم يحكموا صياغة المخططات الكفيلة بجعل البناء يكبر شيئاً فشيئاً ويتقوى بالإسمنت المتماسك. إنها التفتيت ونشر الفوضى وقد تلفع برداء فكرة عظيمة... وكم من فكرة عظيمة في التاريخ الإنساني ابتذلت وأهين معناها حين تحولت إلى غطاء وذريعة لأبشع الجرائم ضد الإنسانية وأشدها هولاً. ألم تكن فكرة الحرية، وقد مات من أجلها الملايين في المجتمعات الغربية في القرون 17 و18 و19 غطاء للاستعمار والتمييز العنصري والحروب الاستعمارية؟ ألم تكن فكرة الاشتراكية غطاء للقمع والتسلطية؟ أليس باسم الإصلاح دخل الاحتلال إلى ديارنا منذ فجر القرن التاسع عشر؟
المشكل اليوم في العديد من البلدان لا يمكن أن يحله إلا أبناء البلد، وبالأخص مع مهندسي الانتقالات ومع مهندسي بناة الدولة، فعملهم يتطلب غياب الخطأ وغياب الارتجال والشعبوية، خاصة عندما نستحضر في تلكم المجتمعات غياب وعي ثقافي وسياسي مجتمعي ومجال سياسي مستقل ذي مسيرة طويلة، وفي بلدان لم تعرف أية تجربة سياسية مقبولة في العلوم السياسية في حياتها، ليأتي فاعلون سياسيون ذوو فكر استئصالي ليزرعوا بذور وأشجار التقتيل والنهب والدمار، ولله الأمر من قبل ومن بعد.