ياسر صالح البهيجان
التغيرات التكنولوجيّة المتسارعة وما تحمله من أنساق كونيّة تتعالى على قيم المجتمع الواحد ومبادئه ومعتقداته، عادة ما تتصارع ثقافيًا مع البنية الاجتماعيّة، ويسعى كل طرف منهما إلى التأثير في الآخر وتهذيب ما يراه تهديدًا لوجوده، وتزداد وتيرة الصراع بينهما في المجتمعات التي تؤمن بمرجعيّة القبيلة والمنطقة والطائفة نظير حالة الشك المتجذّرة في ذهنيّة من ينقادون لتلك المرجعيّات المتنافية مع حالة التمدّن والتطور الحضري داخل المجتمعات المدنية.
المبادئ التكنولوجيّة لا تؤمن بوجود فوارق بين البشر، الأبيض والأسود سواء، والأنثى والذكر شيء واحد، وكذلك الابن الشرعي وغير الشرعي هم كذلك سواء في نظر التغير التكنولوجي، لكنها ليست كذلك داخل بنية المجتمع التي تشكلت كامتداد لإرث تاريخيّ يحمل أنساق الازدراء والفوقيّة وعلو كعب جماعة على أخرى، أو طائفة على طائفة بناء على خلفيّات دينيّة تؤجج الصراع والعداء، علاوة على المجتمعات ذات الثقافة الذكوريّة المحتقرة للمرأة التي تعدها إِنسانة من الدرجة الثانية.
وفي معظم الأحيان تفشل التغيرات التكنولوجيّة في فرض سيطرتها داخل البنية الاجتماعيّة ذات المفاهيم القبائليّة والمناطقيّة والطائفيّة والذكوريّة؛ حالها في تلك البيئة أشبه بحال من يتعلّم السحر لمواجهة السحرة، أو أشبه بحال الانقلابات العسكريّة التي تدرب الحكومات الشرعيّة الضالعين فيها وتنفق عليهم بسخاء ثم تتفاجأ برفعهم الأسلحة تجاهها لسحب شرعيتها.
شبكات التواصل الاجتماعي التي تمثّل ذروة التغيّر التكنولوجي هي الأخرى أتت بآمال أحداث تشكيل جديد في بنية المجتمعات، طامحة في تأسيس ثقافة إنسانية قائمة على مبدأ المساواة وحريّة التعبير ومبادئ التحاور الإيجابي، لكنها لم تحقق من تطلعاتها تلك سوى القليل، واصطدمت ببنية اجتماعيّة تتوجّس من الآخر، وترفض إعادة تقييم معتقداتها ظنًا منها بأن أي محاولة للتغيير هي محاولة لطمس الهويّة والولاء، فضلاً عن شريحة اجتماعية لا تزال تؤمن بمبدأ المؤامرة الكبرى التي تحاك ضدها.
واصطدمت التغيرات التكنولوجيّة كذلك ببنية اجتماعيّة تؤمن بالاصطفاف خلف الرموز وليس الأفكار، فما يقوله الرمز صحيحًا بالضرورة حتى وإن خالف العقل، ما أوجد أرضية تؤسس لمفهوم التبعيّة وتناهض الاستقلال الفكري، لتتضخم بذلك الشخصيّات ويزداد تهميش عقول الاتباع، حتى استحالت إلى بيئة خصبة لنمو الأنساق الفحوليّة التي تقدّس حالة العمى الثقافي، واستغلال الشعور الوجداني الكامن في أفراد المجتمع.
التطورات التقنيّة لا تمتلك عصا سحريّة لتغيير أي بنية اجتماعيّة، هي مثل الطبيب الحاذق الذي يصرف الدواء المناسب، ويترك الأمر بيد المريض الذي قد يتناوله ليتعافى أو يضعه جانبًا ويستمر في مكابدة مرضه، وأي تغيّر اجتماعي لا بد أن يبدأ من المجتمع ذاته، وبواسطة تنمية وعيه وإدراكه بضرورة اكتشاف مشكلاته ومعالجتها انطلاقًا من التغيرات التكنولوجيّة التي تعد وسيلة لتصحيح المفاهيم ومراجعة حزمة القيم والمعتقدات الموروثة التي قد تشكّل عائقًا أمام أي تقدّم أو إصلاح في البنية الاجتماعية.