أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الثَّقلانِ من الجنِّ والإنس محاسبون بمقتضَى عقولِهم، مكلَّفون بها؛ مِن أجلِ معرفةِ الحقِّ لا مِن أجْلِ تأسيسه؛ بسبب أنَّ العقلَ غيرُ مستقِلٍّ بنفْسِه بل زادُه مِن مصدرين: الأوَّلُ الحِسُّ الذي يُمِدُّه بمعرفَةٍ ما هو كائنٌ برؤيةٍ بصرِه، أو برؤيةِ بصيرته إنْ كان ضريراً.. والثاني أخبارُ اللهِ وأحكامُه في شرائعه ومِلَّتِه التي أنْزلَها على رُسُلِه عليهم صلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه؛ لأنَّ اللهَ خلقَ العقلَ هادياً، ورَهَنَ حصولَ هدايتِه بالموجودات التي خلقها الله وليستْ مُغَيَّبةً عنهم؛ بل هي مائِلةٌ يدركها المُكَلَّفُ ببصره أو سمعه أو شمِّه أو لَمْسِه أو ذوقهِ، أو بكلِّ ذلك؛ رهن حصولُ هدايته سبحانه بِتَلَقِّي المكلَّفِ ما أنزلَه اللهُ على رُسُلِه أخباراً وأحكاماً وتصوُّراً في شرائِعه، وفي المِلَّةِ الواحدةِ التي جمع عليها الأنبياءَ والمرسلين عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُه وبركاتُه؛ لأنَّ صِحَّة التصوُّرِ تهدي إلى صِحَّةِ السلوك.
قال أبو عبدالرحمن: بِدافِع الإنصافِ أرَى أنَّ المعتزلَةَ (على الرُّغمِ مِن كثْرَةِ ضلالاتِهم) مُصِيْبُون في حُكْمِهم بأنَّ الناس محاسَبُون بمقتَضَى عقولهم بدلائل الاستنباط واللزوم من شواهِدِ الحِسِّ في الأنفس والآفاق، ومن دلالةِ وَحْي الله لأنبياء الله ورُسُلِه بمقتضَى اللغةِ التي نزل بها الوحي؛ ولهذا يُوازِنُ الأفْذاذُ مِن العلماء بين مذاهب الناس من ناحيةِ القُرْبِ أو الْـبُعْدِ عن شواهد الحسِّ واللغة التي تَتَفَهَّمُ الشريعة، وتتصَوَّرُ ما أذنَ الله بتصوُّره من أحكامِ الملَّةِ وأخبارِ وأحكام الشرائعِ؛ لأن خلوصَ مَذْهبٍ ما للحقِّ والخير والجمال أو أضدادِهنَّ محالٌ؛ وإنما الخلوصُ للحقِّ والخير والجمال لِسُلوك واعتقادِ مَن عَصَمَه الله عن الخطأ في إبلاغ الشرعِ مِن الأنبياء والمرسلين عليهم صلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه؛ وكذلك مَنْ جاء الشرعُ بتأييد اجتهادِه منهم.. ويكون الخلوصُ للحق والخير والجمال في اتِّفاق علماء المسلمين العدول على إمضاء أمْرٍ ما في وقتٍ ما وإن ظهر للمخالِفين بعد ذلك برهانٌ على خِلافِه؛ لأنَّ الله لم يُكلِّفْ الناسَ إلا بمقدارِ ما علموا، ولأنَّ عَلَنَ المؤمنين الصادقين معصومٌ بخلاف عَلَنِ مَن استباح الظلمَ والفساد في الأرض والبغاءَ والجنسَ الثالث والمخدِّرات.. ولا سبيل إلى معرفةٍ العقلِ وعِلْمِه من مصادرِه تفصيلاً إلا بتحقيقِ صِحَّة الثبوت والدلالة، ثم يكونُ الاستسلامُ للشرع حَتْماً.. وما أحاله العقل؛ وهو بخلاف ما لَمْ يعرفه، أو استشكله: فمحالٌ أنْ يكونَ مَصْدَرُه خبراً شرعياً صحيحَ الدلالة والثبوت؛ لأن البراهينَ لا تتعارض في فطرة الله الكونية، وقضائه الشرعي.. والعقلُ عند غياب الخبر الشرعي التفصيلي يهتدي ويعرف الحق إجمالاً: من جهةِ العلمِ بحتْمِيَّةِ وجودِ خالقٍ واحدٍ مقدَّس يستحيل تفسيرُ وجودِه بغير قَـيُّوميَّته، ومن جهة الإيمان بضرورات التاريخ والمُشاهدات الحسية لِـمأْثورِ القرونِ عن وجودِ أنبياءَ ورسلٍ وكتب وعقوبات.. والبرهان على أنَّ العقل محاسبٌ مكلف بالإيمانِ بما يعلمه من الحقِّ إجمالاً، والامتناعِ عن دعوى ما لَم يعلمه: قولُ الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [سورة الإسراء /36].
وخطابُ اللهِ العقلَ في أكثر النصوص خطابٌ للقلب؛ وهو اللبُّ والؤادُ؛ وهكذا خطابُه الصدور التي هي مقر القلوب؛ لأنه لا أَثرَ للمعقولِ في نفس الإنسان حتى يصيرَ عقيدةً في قلبه يطمئن إليها، وينفعل من أجلها.. والخطابُ في الآية المذكورة آنفاً نَهْيٌ عن القَفْوِ بغير علم؛ فهو أمر بالنظر بعلم.. والله جعل للعقل شواهدَ من الحس وفطرة العقل، والتاريخِ من الحس السمعي، والآثارِ من الشواهد البصرية على وحدانية الله وهيمنته؛ فعقلُ الإنسان مكلف بأنْ ينظرَ في آيات الله الكونية، ويبحثَ عن حقائق الأديان حتى يجِدَ دينَ الوحدانيةِ والتقديس بمقتضى ضرورات فكره.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.