سلمان بن محمد العُمري
وصلني عبر تطبيق «الواتس أب» مقطع (فيديو) صغير لا تتجاوز مدته دقيقة و47 ثانية يتضمن ابتهاج سكان قرية في أفريقيا بحفر بير لمسجدهم تبرعت به معلمات الابتدائية الثانية لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة بريدة لمديرتهن المربية الفاضلة صفية بنت عبدالكريم المشيقح - رحمها الله - التي توفيت أثر حادث مروري حيث اتفقت الزميلات فيما بينهن لعمل خيري تمثل في حفر البئر ليكون صدقة جارية لها وفاء منهنّ لمن كانت من ذوات الخلق الكريم، وممّن غرست الإيثار وحب الخير بين زميلاتها فتنافسْنَ بعد وفاتها في الدعاء والصدقة، وهو ممّا يسطّر صورة إيجابية لمعاني الوفاء.
والوفاء وحفظ الجميل خصلة حميدة يتمتع بها ذوو الأخلاق الكريمة والهمم العالية الرفيعة في كل زمان و مكان، ممّن سمت نفوسهم للعلياء والرقي ابتغاء ما عند الله من الأجر، ومهما سمعنا من قلة الوفاء ونكران الجميل في هذا العصر فإن ثمّة خيرا لا يزال في الناس، و بتدوال قصص أهل الوفاء إحياء لهذه الخصلة والخلق الكريم وشكر لأهلها و تحفيزاً لغيرهم والتأكيد على أن الخير لا يضيع عند الله ولا عند الناس كما قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيهُ
لا يذهب العرف بين الله والناسِ
ومن المشاهد الطيبة التي تبعث في النفس الطمأنينة رؤية الجميل وعمل الخير مشاعاً بين الناس و يتسابقون إليه، ولعلي أسوق مواقف أخرى للوفاء والجميل وعمل الخير مما تيسر لي سماعه ورؤيته أو الوقوف عليه في هذا العصر:
* مستخدم في إحدى الدوائر الحكومية ميسور الحال توفي - رحمه الله - بعد معاناة مع المرض وخلّف صبية مع والدتهم ولا يملكون لا داراً تؤويهم ولا معاشاً يغذيهم فانبرى رجلٌ ممّن كان معه في العمل وسخّره الله لهم فجمع مبلغاً من المال من زملاء
وأقارب وتم شراء منزل لم يكن الميت يحلم به ولا أهله، وهذا العمل الخيري رغبةً فيما عند الله بالإحسان لهؤلاء الأيتام، ووفاء لزميلهم المتوفى.
* رجلٌ كان في مهمّة عمل خارج المملكة امتدّت لسنوات وقد توفي أحد زملائه، وحين عاد للمملكة مع قرب موسم الحج عزم على أن يحج عن زميله.
* مرض أحدهم وطالت غربته في الخارج فكان زميله يواسيه بالتواصل الهاتفي بصورة شبه يومية، وبعد عودته كان يسليه في كل مساء للتخفيف من مصابه وهو أمر لم يتم حتى من أقرب الناس إليه من عائلته.
* أحد الزملاء الإعلاميين توفي زميل لهم من الإعلاميين الأكاديميين ولم يدخر عليه بالعيادة في مرضه والدعاء له حتى بعد وفاته وتمم معروفه ووفاءه وجميله بإصدار كتاب يسجل فيه مواقفه وذكرياته الطيبة الجميلة ومخلداً لرحلته في الحياة.
وأختتم بهذه القصة يقول أحد التجار: كنت أعمل في التجارة مع صديقي سعود في مدينتنا وذات يوم ذهبت لصلاة الجمعة في الجامع الكبيركعادتي فقال الإمام: الصلاة على الجنازة.
وتساءلنا من المتوفى؟!
فإذا هي الصدمة إنه صديق العمر. لقد توفي بسكتة قلبية - رحمه الله - في الليل ولم أعلم بالخبر حيث كان هذا الحادث عام 1415 هـ قبل الجوالات ووسائل الاتصال السريعة.
صدمت بشدة وصلينا الجنازة على حبيبي وصديق عمري، وبعد شهور من الحادث بدأت أصفّي حساباتي المادية مع أبناء صديقي وورثته، وكنت أعلم أنه رحمه الله عليه دين بمبلغ (300) ألف ريال لأحد التجار فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص الدين عند أبنائه وحيث إن الدين لم يكن مثبتاً بشكل واضح لأنه تم عبر عدة صفقات لم يتضح لأبناء المتوفى هل والدهم سدد ثمن الصفقات أم لا؟
ورفض أبناؤه التسديد ما لم يكن هناك أوراق ثابتة تؤكّد أن والدهم لم يسدّد المبلغ، ولأن العلاقة بيننا نحن التجار تحكمها الثقة لم يوثق ذلك التاجر مراحل التسديد بوضوح ولم تقبل شهادتي وصارحني ابنه قائلاً: لم يترك لنا والدي سوى 600 ألف ريال فهل نسدد الدين الذي لم يهتم صاحبه بإثباته ونبقى بلا مال!!، ودارت بي الدنيا وتخيلت صديقي معلقاً في قبره مرهونا بدينه!!
كيف أتركك وأتخلى عنك يا صديق الطفولة وياشريك التجارة، وبعد يومين لم أنم فيهما وكنت كلما أغمضت عيني بدت لي ابتسامة صديقي الطيبة وكأنه ينتظر مني مساعدة لقد عرضت محلي التجاري بما فيه من بضائع للتقبيل والبيع وجمعت كل ما أملك وكان المبلغ (450) ألف ريال فسددت دين صديقي وبعد أسبوعين جاءني التاجر الدائن له وأعاد لي مبلغ 100 ألف ريال!!
وقال: إنه تنازل عنها عندما عرف أني بعت بضاعتي ومحلي من أجل تسديد دين صديقي المتوفى وذكر قصتي لمجموعة من تجار البلدة، وقد اتصل بي أحدهم وأعطاني محلين كان قد حولهما لمخزن، وذلك لأعود لتجارتي من جديد، وأقسم لي ألا أدفع ولا ريال، وما إن استلمت المحلين ونظفتهما مع العمال إلا وسيارة كبيرة محمّلة بالبضائع نزل منها شاب صغير في الثانوية وقال: هذه البضائع من والدي التاجر فلان يقول لك: عندما تبيعها تسدد لنا نصف قيمتها فقط والنصف الباقي هدية لك. وكل ما احتجت بضاعة فلك منا بضايع على التصريف، وانتعشت تجارتي أضعاف ما كانت قبل تلك الحادثة، والحمد لله لقد أخرجت زكاة مالي ثلاثة ملايين ريال.
فأولاده فلذات كبده لم يكترثوا بسداد دين والدهم طمعاً في الميراث، والصديق الذي كان بمثابة الأخ المخلص ضحى بباب رزقه حتى لا يحبس صديقه في قبره ويعذب بسبب دينه.