زكية إبراهيم الحجي
ظاهرة هجرة الكفاءات والعقول أو ما يُطلق عليها «نزيف الأدمغة» ظاهرة حديثة نسبياً نشأت امتداداً لظاهرة قديمة النشأة ألا وهي ظاهرة الهجرة التي ارتبطت منذ الأزل بحركة الإنسان وتنقله من مكان لآخر بحثاً عن ظروف معيشية توفر له ولأفراد أسرته.. الحد الأدنى من الحياة الكريمة والعيش السعيد.. وتساعده على توسيع خبرته والاطلاع على ثقافات وحضارات الآخرين..مما ينعكس إيجاباً على المجتمع الذي خرج منه.. لكن المشكلة عندما تتحول الهجرة إلى ظاهرة متزايدة تداعياتها تسبب نقصاً في الكفاءات المتميزة التي يعول عليها أي مجتمع في إحداث التغيير والنهوض بجميع الجوانب التنموية، فذلك ما نسميه «نزيفاً» للعقول العلمية المبدعة وبالتالي مقياساً لمدى إخفاقات السياسات التنموية لأي مجتمع.
وبما أن هجرة العقول واستنزاف الأدمغة تعتبر ظاهرة عالمية وتخضع بشكل عام لعوامل الطرد وعوامل الجذب شأنها في ذلك شأن أي ظاهرة.. فإن هجرة العقول العربية والكفاءات العلمية المتميزة كالأطباء والعلماء تمثل جرحاً نازفاً يُضعف الجسد العربي.. ويقف عائقاً في طريق النهوض بالتنمية.
ومنذ القرنين الماضيين والعالم يشهد تطورات سريعة ومتتالية تحت مظلة العولمة التي حولت العالم إلى قرية كونية مفتوحة تستوعب كل ما هو جديد ومتطور.. فازدادت الشراهة لدى الدول المتقدمة نحو استقطاب وجذب كفاءات متميزة من العقول العلمية خاصة العربية منها مستفيدة من النبوغ الذهني المتفرد لهم وبالتالي استطاعت أن توظف هذه العقول بما يخدم أهدافها الآنية والمستقبلية.. والسؤال الذي يطرح نفسه.. ما الدوافع الرئيسة الكامنة وراء مشكلة هجرة العقول العربية ثم ما التداعيات المترتبة جراء هجرة العقول.
أشار تقرير للأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي وصدر عام 2002 أن عدد المهاجرين العرب من حملة الشهادات العليا إلى أمريكا وأوروبا الغربية بلغ نحو نصف مليون مهاجر وأن ظاهرة الهجرة تتفاقم من عام إلى آخر.. أليس في ذلك مدعاة للغرابة.
ولكي ندرك أبعاد ظاهرة هجرة العقول وخطورتها على الواقع العربي ومستقبل عملية التنمية فيها فمن المفيد أولاً أن نشير إلى الأسباب التي تكمن خلفها..فعلى أن هذه الأسباب كثيرة ومتداخلة ويصعب معها الجزم بحتمية تأثير أحدها دون الآخر إلا أن قوى دفع الأدمغة إلى خارج أوطانها تنشط في ظل عدة مسارات.. تحولات سياسية وحروب أهلية وعدم الاستقرار.. قلة التطور في التعليم الجامعي.. وانعدام التوازن في النظام التعليمي بمعنى فقدان الارتباط بين أنظمة التعليم ومشاريع التنمية.. ندرة وجود مراكز مجهزة للبحوث العلمية فضلاً عن عدم وصول المجتمع العربي إلى مرحلة الربط بين النشاط العلمي والتكنولوجي واحتياجات المجتمعات.. إضافة إلى ضعف الإنفاق على البحث العلمي.. الشعور بالإحباط عندما تجد هذه العقول والكفاءات المتميزة إهمالاً من حكوماتهم، وبالتالي استعانتهم بخبراء أجانب ومنحهم رواتب عالية جداً ومميزات لا مثيل لها رغم توافر الكفاءات الوطنية المبدعة والمتميزة.. تجاهل هذه العقول وعدم دعمهم مادياً ومعنوياً وغياب التشجيع والحماس لنتائج البحوث العلمية وشح التغطية الاعلامية لها.. البطالة المتفشية بين أكاديميين من حملة الشهادات العليا.. غيض من فيض أسباب اجتمعت وجد أصحابها ضالتهم في دول تحقق طموحاتهم.. تحتضنهم وتوفر لهم الفرص المناسبة في مجال البحث العلمي والتجارب التي تثبت كفاءتهم من جهة.. وتطورها وتفتح أمامهم آفاقاً أوسع وأكثر عطاء من جهة أخرى.. ناهيك عن توفير فرص عمل مجزية مادياً بل ومنحهم مقاعد لإدارة مراكز بحوث أو جامعات عريقة في عطائها.
وفي ضوء ما تقدم فإن معضلة هجرة العقول العربية تفرز عدة آثار سلبية على واقع التنمية ولا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب بل تمتد إلى التعليم وإمكانات توظيف مخرجاته في مجالات التنمية المختلفة..وحقيقة فإنه ليس من السهل تحديد إجراءات معينة لمعالجة هذه الظاهرة التي باتت أنماطها وتأثيراتها تتسم بشيء من التعقيد مع تسارع التطور التكنولوجي في ظل اتجاهات العولمة.. إلا أن ما ينبغي فعله هو معالجة شاملة لأسباب ودوافع استقطاب العقول العلمية المتميزة والمتفردة والسعي لوضع حلول جاذبة ومغرية وذلك للحد من هذه الظاهرة وتداعياتها السلبية.