مؤلم هو رحيل الأحبة، ومؤلم أكثر عندما يكون الراحل هو نبع الحنان الوالدة العطوفة الحبيبة. ومؤلم أكثر عندما تعلم أن الراحل هذه المرة لن يعود.
وقفت ومعي إخواني وأخواتي أمام الشاشة في غرفة العناية المركزة حيث ترقد والدتي تصارع المرض والألم. وقفت أتابع الأرقام على الشاشة وأتابع نبضات قلبها الكبير وهو يعاني من سكرات الموت. هذا القلب الحنون الذي أحب الناس كل الناس وعطف على القريب والبعيد. هذا القلب الذي كان يتألم لكل مريض ويرحم كل ضعيف ويشفق على كل فقير هو الآن مريض وضعيف وفقير اإلى رحمة الله.
شريط طويل من الذكريات مع والدتي يمر بخاطري الآن... ذكرياتي معها في طفولتي وشبابي، في دراستي وعملي، في سفرنا وحلنا وترحالنا.
أستمر في النظر إلى الشاشة... بدأت الأرقام تتهاوى أمام ضربات المرض. الآن يقف الطب عاجزاً. الكلمة الآن للواحد القهار سبحانه بيده كل شيء. استمر في النظر إلى الشاشة تتسارع دقات قلبي كلما أنخفض الرقم. فجأة يهبط النبض بشكل سريع إلى أقل... فأقل... فأقل... ثم تتوقف نبضات قلب والدتي.
يهرع الأطباء والممرضات إلى داخل الغرفة... يتحركون بسرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه... أقف عاجزاً بانتظار الخبر الحزين. يخرج الطبيب... يتجه إليَّ... يتكلم بصوت مخنوق: عَظَّم الله أجركم.
يا الله رحمتك يا الله عطفك، هل حقاً رحلت والدتي؟ هل ترحل والدتي الحبيبة وما شبعنا من حبها وحنانها... ترحل وما مللنا من رؤيتها وعناقها... ترحل وشوقنا لها يزداد. أعانق إخواني وأخواتي بالبكاء والدموع ولا نقول إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى.
أذهب إلى والدي الحبيب أقبل رأسه، أعجز عن الحديث كيف يمكن أن أقول له أن شريكة عمره لسبعين عاماً قد فارقت الحياة... يقرأ الخبر من عيوني ودموعي، يسألني كيف الوالدة؟ أخبره بصوت متقطع: الوالدة تطلبك الحل. تخرج الكلمات متقطعة من أبي، تختزن حزناً عميقاً وألماً عظيماً: الله يرحمها ويغفر لنا ولها.
أعود إلى غرفة الوالدة، أنظر إليها النظرات الأخيرة... أعانقها...
سامحيني يا والدتي أننا لم نتمكن من هزيمة المرض... بحثنا عن أمهر الأطباء وأحسن المستشفيات ولم نهزم المرض وأيقنا أنها إرادة الله عز وجل.
سامحيني يا والدتي أننا لم نقدر أن نفديك ولو قدرنا لفديناك بالروح وبكل ما نملك.
سامحيني يا والدتي إن قصرنا في خدمتك. أنت الآن في رحاب الرحمن الرحيم.
رحلت والدتي نورة بنت سالم الجعيب في عصر يوم الجمعة، وهي التي كانت تدعو الله أن تكون وفاتها في يوم الجمعة. اللهم اغفر لوالدتي وأرزقها جنات النعيم. اللهم أجمعني بها وبوالدي الحبيب وإخواني وأخواتي وذريتنا ومن أحبت ومن أحبها في الفردوس الأعلى في جنات النعيم.
يحزنني أنني تعودت أن أقبل رأس والدتي كل يوم. أما اليوم فلا أستطيع.
- د.منصور بن صالح المالك