عروبة المنيف
عندما أسماه والداه «عمران»، ذلك الطفل السوري ابن الخمسة أعوام، هل كانا يا ترى متفائلين بأن ذلك الوليد سيكون «فأل خير» على سوريا لتعمر بقدومه؟، لم يعاصر للأسف ذلك الطفل منذ ولوجه للحياة سوى الموت والدمار والحرب.
يذهلنا عمران بصمته في تعبير بليغ عما أصاب العالم من غياب للضمير الإنساني وكأن لسان حاله يقول، هل هذه هي الإنسانية التي قدمت إليها وليداً؟ فأنا لم أجد منذ قدومي إليها سوى الوحشية والقتل!، لقد ولدت في غابة يحكمها أسد، أراد ترويض بشر لا يتنازلون عن إنسانيتهم، يؤمنون بقضيتهم وبثورتهم وبحريتهم، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً! فلا الأسد ولا جيشه ولا مليشياته ولا القنابل العنقودية والفسفورية والحرارية والصواريخ الكاليبرية الروسية استطاعت أن تقضي على إرادة أمه.
إن جيل الحرب المتمثل في الطفل «إيلان الكردي» الذي لاقى حتفه على شواطئ اللجوء، والطفل «عمران دقيش» الذي أرهب صمته الجميع عند انتشاله من بين أنقاض بيته ووجهه ملطخاً بالدماء، هما أعظم شاهد على بشاعة الحرب، تلك الوسيلة الجبانة التي تسخر أعداء الإنسانية وتستخدمهم كأدوات من أجل تشويه الإنسان الذي ميزه الله بالعقل وبالوعي وبالضمير وبالحس الإنساني لينحدر إلى الدرك الأسفل فتهون عليه دمار أمه وتهجير شعب وفناء حضارة.
إن «صمت عمران» أذهل العالم في زمن أصبح فيه الصمت أبلغ من الكلام، لعل «صمته» يحرك القلوب التي لم تشيع إلى مثواها الأخير بعد، فالعالم بحاجة إلى صدمه كهربائية ليصحو من غيبوبته!، فها هو «صمت عمران» صدمة جديدة بعد صدمة «غرق إيلان»، لعلها تكون صدمة منعشة للعالم تجاه نكبة الشعب السوري. إن المجتمع الدولي بحاجة لتلك الصدمات بين الفينة والأخرى، فقد أنعشت صدمة «صمت عمران» صحفيات شبكة «السي إن إن» الأمريكية، أولها، عندما بكت مذيعة الشبكة على مشهد «صمت عمران» وذهوله بعد انتشاله من تحت الأنقاض ونقله إلى سيارة الإسعاف من غير أن يذرف دمعة واحدة على الرغم من إصابته، بقي صامتاً مذهولاً، ولكنه أبكى العالم بصمته، وكأن لسان حاله يقول للعالم
«هذا هو صمتكم حيال موتنا وتهجيرنا ونكباتنا».
الصحفية الثانية الأمريكية كلايسكا وارد، مراسلة السي إن إن التي أدلت بشهادتها أمام الأمم المتحدة عن الحرب في سوريا وعن حلب تحديداً، فقد أكدت أن ما رأته في حلب لم تره في العراق ولا في أفغانستان ولا في غزة، إنه شيء مختلف تماماً، هو الجحيم بعينه، إن الناس لا تثق بكم أيها المجتمع الدولي لأنكم تقفون متفرجين على قصف المنازل والمستشفيات والمخابز بالقنابل والصواريخ حاصدة من الموتى والجرحى أعداداً لا تعد ولا تحصى!
إن «صمت عمران» الذي كان أبلغ من كل كلام، يرمز إلى صمت العالم وصمت «هيئة الأمم المتحدة» عن القتل والتهجير المستمر للشعب السوري المنكوب.
عندما تعجز الحروف والكلمات عن نقل الصورة ببلاغة تامة، يكون الصمت هو أبلغ كلام، وعندما تتعلم كيف تجعل سكوتك يتكلم وكلامك يصمت، تصبح حروفك من ذهب.