سعد بن عبدالقادر القويعي
تمضي بنا الحياة، ولا يدوم في الدنيا حال؛ فالدنيا - كلها - لم تُبن على الاجتماع، واللقاء، بل جُعل الفراق أساساً لها، ليرخي على الأجواء طرحته الداكنة، ويفجعنا الموت إذا ما جاء بنبأ وفاة عزيز لدينا، ليصبح من نعزهم لو طالت بهم الحياة ذكرى لن تعود، فلا الشدائد تدوم، ولا النعيم يبقى، ولا يستمر أمر بحال.
تنساب حروفي الدامعة في رثاء - الأم الفاضلة - نورة بنت سالم الجعيب، بعد أن توقف قلبها دون شكوى، أو أنين، ليتدثر الألم الحرف غطاء، ويتخير الحزن الدمع ثيابًا، ويعتصر القلب لوعة الفراق، وأنا أكتب هذه الكلمات؛ لأخطّ في رثائها شيئًا مما هي تستحقه وفاءً، وعرفانًا.
أم منصور، أرَقتني قصة الرحيل حين يغيب الرثاءُ، ويحضر الاحتفاءُ، وتحار العبر؛ لتسطر في ذكرى رحيلك كلمة رثاء، رغم أن ابتسامتك التي رحلت لم تزل تروينا، ودعواتك التي سكتت في صمتها حتمًا ستشفينا؛ فرأيت أن أرسمها كما جادت بها تصاريف الكي، بورد يُفت به العضد، وتضطرم به الكبد، وبدمعة لا تفارق العين ألم، وبغصة، وفراق سكن القلب؛ فرحلت عن الدار الأولى بعد أن كنت فيها زاهدة، ورحلت وأنت تؤمنين بأن الآخرة عند الله هي خير، وأبقى.
عظمتِ في نظرنا عندما صغرت الدنيا في عينيك، فرأيت النجوم، والقمر، والسمر، والهدوء بقناعات الغنى عن الناس؛ فكانت بالنسبة إليك منتهى السعادة، ولأننا كتبنا الذي كتبناه إلى من له القدرُ، والمقدار، فإن رحيلك أعجزنا، وأبكانا، فكان ألم فقدك أكبر من أن يُسطر بمرثية، فأقسى، وأصعبُ رحيلٍ هو الرحيلُ المليءُ بالحضور، عندما كنت بالأمس معنا؛ فغبت اليوم عنا، وغاب معك لحن الحياة.
كان كرمك، وبساطتك تؤثر الغرباء قبل الأصدقاء، فأنت الجواد الذي لا يتجمل بمعروفه، حين رأيت من زاوية - كلها - بشرى، وظنون خيِّرة . بل كانت نفسك الطيبة تتعايش مع كل ذي طبع، باعتباره المسلك الذي نجد أنفسنا سائرين به، وإليه، إذ ثمة حلاوة لا يذوقها إلا من كان حب الناس مسلكه.
تحدثني والدتي: أنك كنت أمثولة في نكران الذات، وأنك لا تُرى أبداً إلا باسمة؛ من أجل أن ترسمي الفرحة على صفحات القلوب، فالبسمة جزء من تقاسيم وجهك؛ ولأن الدنيا بين عينيك كانت كضحكة كبيرة، يتخللها نهر فياض من العطاء للجميع، فقد كنت توزعين كؤوس السعادة على قلوب من حولك، فاستطعتِ أن تتعدي حدود القلب إلى أيِّ قلب ببسمتك الطاهرة، لتسقي بذرةَ الثقةِ، والأملِ في أنفس الحاضرين - من حولك - بحسن منطقك، وعفة لسانك، الذي دل على لباقتك، وذوقك الرفيع.
أي رثاء يوفيك حقك أيتها الأم الطيبة، يا من كنت مثالاً لجمالِ الجوهر، وجلالِ المظهر، فمصابنا بفقدانك عظيم، وعزاؤنا أنك رحلت بجسدك، وبقيت في قلوبنا بأعمالك الخيرة، ودعواتك الصادقة، وحديثك الحلو، وخفة ظلك، ودماثة خلقك، فأنت الغائبة الحاضرة، التي سنحكي لمن يسأل عنك حكاية امرأة، كانت أكبر من الكلمات، وأغنى من كل الدلالات، فسلام على روحك الطاهرة، وهي في قلوبنا باقية، وفي عقولنا متثبتة، وفي مشاعرنا متجذِّرة.
سنرتشف الحزن بهدوء، ونعانق بعضًا مما تبقى من الذكريات. وسنرفع دعاءنا إلى الإله العظيم بعدد أنفاسنا، وما زلنا مقصرين، فالآهات لا تجدى يا جمال الأخلاق، بل الدعوات مرفوعة بأكف الضراعة إلى الباري - عزّ وجلّ -، بأن ينزل على روحك الطاهرة شآبيب رحمته، ورضوانه، ومغفرته، وأن يحسن مدخلك، وأن يجعل نزلك الجنة، وأن يتقبلك مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن يظلك بعرشه يوم لا ظل إلا ظله.