كوثر الأربش
هدوء عمران الطفل، وهو يرتدي غبار المدينة على وجهه، جعلنا نعرف أن الممثلين من حولنا، كانوا رديئون جداً. الذين يصرخون في الشوارع وهم يحملون اللافتات لا يتألمون، هم مجرد جلد ساخن لطبلة صاخبة وفارغة. السياسي الذي يشوح بيديه عاليًا، ويعدنا بالخبز والماء والعدالة، العاشق الذي يصرخ جوار شرفة محبوبته بعد الفراق، هؤلاء مزيفون ومهرجون لا أكثر.
المتألمون الحقيقيون هناك، ممددون تحت شجر توت في حلب، مثل جمال الأشقر ذي 13 ربيعاً، أو تحت الأنقاض في حلب، على كرسي سيارة الإسعاف في حلب؛ مثل عمران الذاهل عن كل شيء، حتى عن الدم المتجمد حول عينه اليسرى.
بعيداً عن مخالب إيران، وصواريخ روسيا، وضمير بشار الذي أعلن وفاته. بعيدًا عن التحالفات الدولية، الأمم المتحدة، أوباما، أنا وأنت. بعيدًا عن كل شيء، ما الذي أراده عمران في اللحظة الغامضة تلك؟ اللحظة التي شاهد فيها الفزع يحول كل شيء يعرفه، إلى غبار وغفلة! الجدار الذي ربما علق عليه ورقة، رسم عليها طفلا وأرجوحة وقوس قزح في حصة الرسم. كلنا رسمنا أقواس قزح وفراشات وأراجيح، علقناها على الجدران، لكننا لم نرَ الجدار وهو يتحول لظلام كثيف، يدفننا ويتبرأ عن حمايتنا من الريح ولصوص الليل.
عمران رأى ذلك، ولم يفهم، لم يحاول أصلا.
محاولة الفهم رفاهية لا يحتاجها المتألمون بصدق. كل عملية عقلية هي معيار حقيقي بأنك لم تصل بعد لأقصى الوجع.
المتوجعون حقًا، صامتون كالتوابيت فارغون كالجوع! ما الذي أراده عمران في تلك اللحظة المفزعة؟ تألمنا كلنا، ربما حلمت أنا، وأنت لو كنا أقرب، لو نلفه بأحضاننا وندفئه، لكنني متأكدة تمامًا أنه لن يشعر بك، لأنه في لحظة المجهول الخانقة تلك، لن يعرفك، لن يريدك.
لُعب، سرير دافئ، طعام، قصة ملونة الصفحات، سيدي بلاي ستيشن؟ كل ذاك، وفي تلك اللحظة التي تشبه ثقباً أسود يبتلع الذاكرة، لن تعني شيئاً. لأنه لم يعد يعرف كل تلك الأشياء، لم يعد يحتاجها. إن المتألمين الحقيقيين، لا يرغبون بأشياء كبيرة كالتي يفكر بها المتظاهرون في الشوارع، يقول سيوران: «كلما تألمنا أكثر؛ طالبنا بالأقل، الاحتجاج علامة على أن الإنسان لم يجتز أي جحيم».
وتقول الممرضة التي اهتمت بجرحه، أن عمران بقي صامتًا حتى رأى والده ووالدته.
إنها الذاكرة إذا!! هذا ما يريده المتألم الحقيقي. لحظة الانفجار التي غيرت الأشياء عن مواضعها، الكرسي والنافذة، ودمية أخته، غناء والدته وعودة الأب. لحظات التغيير القاسية والشاملة والمدمرة لما ألفناه، لحظة تمتلك ألف يد تلتف على عقلك، تضغطك، تجعلك خاويًا، ومنفصلاً عن ما يدور حولك تماماً، كما لو كنت تشاهد ما يجري من مكانك البعيد والفارغ.
«ذاكرتنا» هي كل ما نحتاجها في الخوف، في التغييرات المرعبة، في كوارث الحروب، في موت الأحبة، في فراق من نحب. بكى عمران، عادت له الرغبة بالصراخ، لإعلانه الصارخ بأنه موجوع وخائف، فقط حين اطمانت ذاكرته، حين رأى وجه أمه التي يعرفها، يعرف رائحة البن بين أصابعها.
بكى، كما لو كان يريد أن يقول لوالده، كما قال درويش لصاحبه: لا أريد مكاناً لأُدفَنَ فيه. أريد مكاناً لأَحيا».