رمضان جريدي العنزي
كانت مسجَّاة على فراش المرض منذ أمدٍ بلا حراك، لا صبحها مملح بالضوء ، ولا مساؤها له قنديل، خمس سنين عجاف والمرض أوجع جسدها، وكسر ظهرها ، وألغى الفرح من أعماقها، عندها من الأوجاع ما يدهش، غصنها يَبِسَ، وبلبلها ما عاد يغنِّي فوق شجرتها العتيقة، ضوؤها خبأ، وعيناها جفَّتا من البكاء، كانت لا تخاف الموت، وإن كانت كلَّ يوم تموت، كانت مثل صخرة ضد الريح، تحاول أن تتغافل عن فجيعتها المهلكة، لكن مقدرتها لا تتوفر، كانت سيدة مكلومة ومثكولة بفعل اللطمات المرعبة، كان لديها تعبير ربكة دلالية داخلية، لكنها لا تستطيع البوح بفعل انعقاد اللسان، كان لديها نكوص طفولي لم تخفِه، كل شيء كان معدًّا للانكشاف، حزينة كانت مثل قطرة ماء منحدرة من غدير الخسران، كانت تنوء كاهله بفعل ضغط مشاعر التقصير الحارقة، حتى أن شَرَك الاكتئاب والمزاج السوداوي قد لفَّها واحتواها، كانت قد فقدت التمتُّعَ بالأشياء والموجودات، وتمدَّدت بانكسار منطوية على ذاتها في محطة الحياة الأخيرة، لقد أصابَها اليأسُ القاتم الخانق الذي يجعل الفردَ يعيدُ مراجعة حسابات قلقه وهواجس مخاوفه التي كانت قبلا ترعبه وتقض مضجعه، فما الذي يعين الإنسان حينما يشعر بأنه مجرد جسد مسجَّى؟ لقد تعاون عليها زلزلة المرض، وصدمة الواقع، مع ضغوط الألم، وحرائق العواطف، وجفاف الودّ، حتى صارت مثل ورق هشٍّ، أو سنبلة يابسة، وهي التي كانت مثل نصوص القصيدة، وعطاء الينابيع، كانت بيدراً، وتنور خبز، وحدائق ياسمين، كانت شجرة سدر، كانت مثل هامة النخيل، عمود البيت كانت، ونمو المشاعر، دفق بهجة، ولون مغاير، وابل أزلي، وقنديل مضيء، برزخ حديقة، إستبرق مكان، وكوثر حياة، ناعورة ماء ما انكفت عن الدوران، كانت عيناً لا تنام، كانت نيزكاً، وبذرة أرض، وثبات، وبؤرة أبعاد، وشمول مكان، كانت قمحاً وحنطة وعريشة عنب، وكوز عافية، وحراكاً، كانت تركع بوجل كلَّ يوم وليلة على سجادة الصلاة بلا دسائس ولا بهتان ولا عطن، كانت رقيقة مثل فراشة تتغذى على رحيق البنفسج والياسمين، كانت نخلة باسقة، البارحة رحلت عنا بهدوء، لكنها تركت في القلب متسعاً من الحزن والبكاء، بعدها كاسرت همِّي وشجني، حتى بدأت الشمس تنسكب من النافذة، البارحة جالستني في المنام، أوقدتُّ لها السراج، كان صوتها حنوناً، ليس محبطاً ولا يأساً، ووجهها يكسوه البياض، كانت متوهجة كنيزك، فيا ربَّ الأنام والحمام واليمام، أفض عليها عطفك، وانض عنها غبار الانكسار، خذها نحو رياض الجنة، واسكب عليها رحمتك، وأبهجها، واغسلها بالبرد والماء، وسورها بين شعبتين من نور ودالية، واكسها بملابس من حرير وسندس واغمرها بنهر الكوثر، فلقد كانت مريضة جداً، لكنها كانت حاسبة.