فقلت له: إن الشجى يبعث الشجى
فدعني فهذا كله قبر مالك
نعم إن الشجى يبعث الشجى, فكل مأتم وكل خبر موت يثير الذكرى لأيام الفقد والبلاء وما فيها من صبر وعزاء.
في يوم الأربعاء 4 من شهر ذي القعدة لعام 1436هـ، الساعة 2.45 ظهراً فاضت روح والدتي -رحمها الله-، وهي بكامل الصحة والعافية, لكنه الموت!
ماتت أمي وما غابت صورتها عن جناني, ولا لحظات وداعها عن ذهني, ما صدًّقت إلى الآن وقد مرَّت السنة أني لا ألقاها في مكان ولا أرى مبسمها في حال, ولا أظن أني سأصاب يوماً بمثل مصيبتي بها فقد كانت الروح لروحي والحياة لحياتي والنعيم لآلامي وأفراحي.
تبعها والدي -رحمه الله - بعد ثلاث وأربعين ليلة في مدينة الملك فهد الطبية يوم الجمعة 19 من شهر ذي الحجة للعام ذاته، الساعة 11.15 ليلاً بعدما خرجنا من زيارته.
لَطِف الله بنا فما كان ليموت أبي عظيم القدر والجلال في أعيننا كأمي أمام ناظرينا، ما كان الله ليبقى في الذاكرة ما لا طاقة للنفس به، الله وحده يعلم ما مرّ من ألم عليّ وعلى إخوتي نتجرع عذابه ونرجو ثوابه عنده، وهو أرحم الراحمين.
إن كل هذه الذكريات لا شيء مما هو الآن يتدافع على ذهني ويزدحم في فكري, لكني أردت أن أكتب عمَّا يداوي الحزن لا عمّا يثيره ويشجيه, فقد قدّر الله موت والديّ في شهرين متتاليين، جعلني خلالها أقف على معانٍ عظيمة آمنت بها وصدَّقت حتى إذا عشتها أطلقت النظر فيها طويلاً، فكانت هذه التأمُّلات.
في تلك الأيام التي انقضت ولن تعود - فلا رجوع لوالديك ولا نظير لهما- لا يجدي مع قلبك الشكوى بل ولا يقوى، فالوقع أعظم من آلاف الكلمات؛ إخوانك يقاسمون قلبك الهم والبلوى، وأحبابك من حولك وإن بلغوا لك من الحب ما بلغوا، لا يملكون حمل الهمِّ عنك ولا نصيفه بل ولا أقل من ذلك، كما أن للمصيبة حرارة تذهلك عن نفسك وعمَّا حولك وإن كنت أقوى الناس وأجلدهم على الحياة إلا أن مباغتة المكروه لها روعة تزعزع القلب وتهدّ أركانه, فإذا أطرق الليل وهدأت الأصوات هاجت ذكرياتك فأنَّى تسكن وأنَّى لدموعك السحَّاء أن تقف، تضعف ضعفًا تخال روحك تنزف الدم لتموت فلا تموت، فلا أجدى حينئذٍ ولا أنفع دواءً ولا شفاءً إلا بالله، فمالك غيره ولا مثبت لفؤادك سواه، تتلمس آيات ربك تتدبر معانيها فيفيض عليك الرب من رحماته: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة، آية 155- 156).
تقرأها فتعاين أعظم السلوان وأعظم البشارات وأجزل العطايا والهبات، قال الطبري -رحمه الله-: (ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، بشّر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نَهْيي عما أنهاهم عنه, والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به، القائلين إذا أصابتهم مصيبة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ -بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد- أهلَ الصبر، الذين وصف الله صفتهم).
فهذه الغيبيات تقع في قلبك غنىً من اليقين والرضا تداوي بها الجراح, فتقر عينك وتطيب نفسك بما عند ربك, تردد: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ), واسمع لفهم السلف -رضي الله عنهم- لما وعوا هذه الآية وفهموها حق الفهم، فهذا عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، قال: (والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟)
إذا ما لقيت الله عني راضياً
فإن شفاء النفس فيما هنالك
وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة، آية 153 وقال: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران، آية 146 وقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} هود، آية 115
فتتوالى عليك الآيات والأحاديث وما فيها من الوصايا النبوية والأدعية الشرعية؛ لتسدُّ عليك منافذ الشيطان سدًا تثبت جنانك وتملأ خواء قلبك, تجبر كسرك وتشد عضدك، قال رسولنا صلى الله عليه وسلم:(ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها) فشرع الله لنا من الذكر والدعاء ما نتعبده به، مع ما فيها من تسهيل المصاب وتخفيفه وتذكير النفس باللجوء إليه والعصمة به, فكلنا ملك لله وكلنا يوماً إليه راجعون, ويعلم الله أني ما وجدت لهمِّ القلب وحزنه الذي يُعجز بدنك ويوهن روحك كالحوقلة استعانة بالله عليه فلا حول لنا ولا قوة إلا بالله, به العزم والقوة والجلد والصبر. فما أجمل تلك اللحظات وما أعظم العزاء فيها حينما تفر بروحك لربك تشكو إليه ضعفك وقلة حيلتك، تتعبد الله في غربة روحك بالرضا والتسليم، تربت على نفسك بالوعود الربانية والبشارات العظيمة تقرؤها تستشعر معانيها كأنك تراها عين اليقين، فالحمدلله رب العالمين.
تليها مرحلة من المواساة عظيمة تبدأ برحلة تجهيز «حبيبك» الميت للدار الآخرة، ففي حر المصيبة وشدتها يردك الله إليه بأحكامه وشرعه، فهذا الجسد الغالي المسجَّى أمامك، هو عند الله بمكان، فحرمته لم تنتهِ بانتهاء حياته التي نعرفها بل جُعلت حرمته ميتاً كحرمته حياً، الجسد الذي صلى وصام جعل الله حقَّه الإكرام بتغسيله وتطييبه وتكفينه وتعجيل دفنه مما يُجبر القلب ويُحسن العزاء لمن بصَّره الله بدينه وأفاض عليه من فتوحاته. فتغسل حبيبك تبدأ بميامنه تضع الطيب على مواضع سجوده تلامس يديك يديه وتفرك بهما جبهته وتطيِّب قدميه ترفق به وتحاذر ألمه ! تعدُّه وتجهزه كحبيب يستعد للقيا حبيبه! هذه المعاني عند استرجاعها وأثناء ممارستها لا تجدد حزنك بل تجبر صدع قلبك وتسكن أنين روحك، فحبيبك ما مات الموت الذي لا حياة فيه، الموت الذي لا لقاء بعده، بل هو حي ينتقل لحياة أخرى نجهلها ونؤمن بها، فاعتقادك الغيبي بحياة «حبيبك» في الدار الآخرة أعظم ما يهوِّن عليك المشاق.
ومما يزيد الصبر والثبات: الإيمان بحسن العاقبة والمآل جاء في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن من قال: (لا إله إلا الله صدقاً من قلبه دخل الجنة) وفي الحديث: (أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة...) فالإيمان بالغيب يجعلك تطمئن على من مات مؤمناً ترجو له حسن العاقبة والثواب، فلا أنفع وأبرد للقلب من الإيمان بنعيم القبر ورجائه للمسلم.
تلي هذه المعاني مرحلة من المواساة لا تقل عن سابقتها في تخفيف المصاب, أمر الله بها عباده وشرع لهم فيها كل ما يخفف على أهل الميت مصابهم من الدعاء بالصبر والخلف والثبات, فالمؤمن ضعيف بنفسه قويّ بإخوانه، فلربما كلمة يسمعها تكشف ما به من كرب بإذن الله, فلست أنسى اتصال صديقة لي في يوم وفاة أمي توصيني بالصبر والثبات تبشرني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) فكأنما سمعت الحديث أول مرة، فهانت عند ذكر الجنة في عيني كل الخطوب, فعندك اللهم نحتسب والدينا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
كانت هذه المعاني التي عشتها حرفياً مع والدتي ثم مع والدي رحمهما الله شيئاً من عظيم المواساة التي تصب في القلب برداً وسلاماً، فالكسر بفقد الوالدين لا يواسى ولا يسلى عنه إلا بالله وآياته والنظر في أحكامه, وهي نفثة محزون فإن كان للمصيبة حرها وللفقد مرارته، فللرضا عن الله حلاوة تنسيك مرارة الدنيا بأكملها، ولولا إيمان بربي ويقين بوعده وسلوى بكلامه، لما طابت نفسي العيش ليلة واحدة دون والديّ!
هذا ولا أقول في المبتدى والمنتهى إلا ما يرضي ربنا، فالحمد لله رب العالمين.
نورة بنت راشد الحويطان - معيدة بجامعة الأمير سطام بالخرج، باحثة ماجستير تخصص عقيدة بجامعة الملك سعود