د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تلك الدهشة في عنوان المقال ليست دهشتي إنما هي دهشة في حديث أمير عكاظ الجديد «خالد الفيصل «عندما قال في مفتتح ركائب عكاظ في دورته العاشرة: «كانت للسوق وحشة، فأصبحت له دهشة».
ومن تلك الكلمة الوافرة لسموه الكريم وهو من يقول ويفعل؛ علمنا أن هناك إمكانية عملية لبديل عصري في تلك المفازة, وأدركنا ذلك ونحن نترنم في الجادة القديمة المضاءة بمصابيح العصر الحديث مع امرئ القيس في معلقته الجاهلية المتعلمة،,
«أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعتِ صرمي فأجملي»
أغركِ مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعِل
عكاظ اليوم من الخواتيم الآسرة لانبعاث الضوء من صحراء مكتظة بمجتمعات الجاهلية القديمة،حين جاءت سوق عكاظ تحمل حواس العرب الأسطورية إلى العصر الحديث، فقد كان التراث غاطسا في حنادسه يُضاء وفق أمانة الرواة ؛ فأصبحت عكاظ اليوم المكان والتضاريس ذاكرة جديدة، تستجلب الموروث الأصيل، وتلبسهُ حلة عصرية، فتوشّحت عكاظ علامة فارقة في الثقافة الحاضرة، وأصبحت تظاهرة ثقافية ناصعة كما كانت في ماضيها السحيق أصلا بارزا في تاريخ العرب.
عكاظ في الجاهلية مبعث منافرة، وزناد حرب، تحفّزها عادات الجاهلية، وعلى أرضها تختضب أفكار العرب وآدابهم ؛ يتصدّرها كيان الضاد تتنازع القبائل ارتداءه والنبوغ فيه، كما كانت عكاظ معرضا للتجارة، ومؤتمرا للسياسة والرأي والاجتماع، واحتكمت القبائل على أرض عكاظ في الحرب والسلم كهيئة الأمم اليوم (دون حق النقض) حيث قوة المكان آنذاك ارتباط مشروط لتعظيم المواثيق؛ فذاك من مروءات العرب الخالدة؛ احترام العهود، والتحرز من الخيانة الخفية فكان العربي يواجه أشد خصومه ضراوة وجها لوجه وفي ذات الوقت يحمي ظهره من الخلف إن غُوفل.
هناك في عكاظ الماضي كانت تنصب المنابر لحكماء العرب، ومن بينهم حكيم العرب قس بن ساعدة وكانت تضرب قبة من أدم لنابغة بني ذبيان فينتظم حوله الشعراء ليحتكموا، و هناك تلتقي اللهجات العربية وتقوم سوق النقد، ولم تكن العرب تحرص على شيء أكثر مما يحرصون على البيان.
وفي العصر الحديث قبل إحياء السوق كان اسم «عكاظ «يمر عابرا بوصفه تسجيلا مقيدا عما اندثر وبقيت بعض أخباره دون استيعاب لذات عكاظ الحضارية أو بوصفه نموذج حضارة ثقافية تكشف عن جهود البشرية في حقبة من أحقابها فجاءت «عكاظ» اليوم تتجذر في التاريخ، وتعانق الحاضر وتنفتح على المستقبل حيث التركيز على القيم المضافة في ريادة الأعمال وتشجيع الشباب للاستفادة من فرص بلادنا الملأى بالكنوز، كما تحظى سوق عكاظ اليوم بقوة كبيرة في تشكيل وجودها، ورسم ملامحها، التي تمكنها من الاستمرار والمنافسة، ودعم تطوير ثقافة الأجيال، ويتمثل ذلك في انتشارها كجدول يصنع جسور التعايش حتى تبرعمت جوائزها للعديد من المبدعين العرب، كما استضافت عكاظ ضيوفا من خارج البلاد، وجلبت بذاك دوائر النقل الثقافي ممثِلة لثقافاتها في مجالات السوق ونشاطاته، ولتشكيل ثقافة سياحية عظيمة؛ ولبّت عكاظ اليوم حاجة الشيوخ والشباب في جوانب المعرفة، ولامست طموحاتهم الثقافية وإن تباينت مواقعهم، فاجتمع على أرض عكاظ المثقفون واجتمعت لهم عكاظ وسكنتهم وسكنوها، وأثارت عكاظ الأحاسيس التي أعادت إلى الذهن تلك الحضارات التي ينبغي أن تدوم وتمتد ما دامت هناك حياة. وتوشحت عكاظ هذا العام ثوباً قشيباً آخر كان هدية لسجل العرب وديوانهم حين اعتمدت أكاديمية الشعر منطلقاً للإعلان عن وهج الشعر ومكانته ودوره في الثقافة الحاضرة بوصفه سجلاً وحاملاً للذائقة.
شكراً عكاظ فقد كنت بالثقافة حفيا.