وأنا الآن أضع إصبعي على زر الكتابة لا تكف عبارة روسو في التمثل أمامي، تلك العبارة التي قالها في اعتراف عميق أمام نفسه - فيما يقال-: « لا أستطيع أن أرى كتابا من كتبي دون أن يقشعر بدني، فأنا أفسد بدلا من أن أعلم، وأنفث السموم بدلا من أن أغذي. لكن العواطف الهوجاء تعميني. ولست رغم أحاديثي المهذبة إلا وغدا»؛ فيقشعر بدني لرؤية الغلو الإنساني الفج، والتعاظم في تقييم نتاجه البشري الضعيف إذ يخر من علٍ.
لكن هذا يجرني إلى سؤال يبالغ في حضوره أمامي ولست أستطيع إشاحة نظري عن أناقة خطواته المتزنة: ما الذي يجر امرأ للتنازل عن هذه الأنا المتعالية وتقريعها وسفح كرامتها على مرأى من الجميع؟ اعتراف صادق لما كان يجامل به المرء نفسه حقبة من الزمن ويزدريها، ويكذب عليها بصدق قضاياه، وصحة نظرياته، وسلامة توجهاته لكنه لم يعد يستطيع الاستمرار في هذه الكذبة؟ ألحظة مكاشفة عميقة هي ينسف بها مؤلفاته التي ربما أفنى من أجلها سنة واثنتين وقد تزيد أمام آخرين خطّائين؟
لست أدري وقد كنا -وما زلنا- في عصور القوانين الفكرية الحربية المشددة هل نستطيع أن نأخذ اعتراف امرئ على محمل الصدق أم أن الممارسات الاجتماعية والثقافية والفكرية وبقية الحروب النفسية التي يفرضها عليه الآخرون تجبره على أن يخضع لها باعتراف مزيف ليلقى السلام النفسي الذي ينشده علّهم يشتغلون بأنفسهم ويتركونه في دعة؟ -وهذا في التاريخ كثير-. ما يزال هذا السؤال يلح في الظهور كلما فتحت كتابا من كتب عميد الأدب الدكتور: طه حسين رحمه الله. ومن قرأت أيامه، وحياته المثقلة بالآلام، والحرمان، والتنكيل، والوحدة، والنبذ علمت كنه إلحاف هذا السؤال حين تتذكر تراجعه عن رأيه في الشعر الجاهلي. وربما هذا سبب انزعاج الشيخ محمود شاكر حين قال- فيما معناه-:» يعتذر عن رأيه في الشعر الجاهلي في المجالس الخاصة لكنه لم يعتذر منه على الملأ».
فاصلة:
عليكن أن ترتبن من كل مفردة تحمل معنى: اعترف وتاب.
- مها الحميضان