د. محمد بن إبراهيم الملحم
المفردة «دلس» في اللغة تعني التزوير فيقال دَلَّسَ البائِعُ : أَخْفَى عُيوبَ بِضاعَتِهِ عَنِ الْمُشْتَرِي، حسناً، ما هي طرائق التدليس عند المعلمين؟ قبل ذلك سأروي لكم حكاية: في سنوات جميلة للتعليم منذ بدأ في الخمسينات حتى نهاية السبعينات الميلادية تقريباً، لم تكن هناك مفاضلات بين المدارس في تفوقها «التعليمي» وربما كان السبب في تقديري محدودية عددها آنذاك، فلما ازداد ظهرت بدعة لدى إدارات التعليم بالمقارنة بين المدارس في تفوقها التعليمي من خلال نتائج طلابها، فالمتقدمة تُمدح والمتأخرة تلام وغدا ذلك مقلقاً لمديري المدارس وانعكس على المعلمين، فلجأوا للأسئلة السهلة للخروج من المأزق وصناعة النتائج المتقدمة لمدارسهم ليرتاح الجميع من تساؤلات الجودة المزعومة، وقد تزامن ذلك مع الانتشار العالمي للأسئلة الموضوعية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تلك الأسئلة التي تعتمد على أساليب الاختيار من متعدد والمقارنة بين القوائم وما إلى ذلك، فوجد فيها المعلمون ضالتهم خاصة أنها تتميز بسهولة وسرعة تصحيحها، فانتشرت هذه الأسئلة بنهاية الثمانينات ثم أصبحت هي كل الاختبار تقريباً في التسعينات ولم يعد هناك أسئلة من نوع أذكر، اشرح، عدّد، قارن، علل وهي الأسئلة التي تمايز مستويات الفهم كما أنها أيضا تقدح مستويات التذكر الأصيل وليس التذكر من نوع التعرف، فماتت مع هذه الأسئلة السطحية ملكتا الحفظ الإدراكي والفهم الاستيعابي لتنتج لنا طلاباً بقدرات قشورية محدودة. وليس هذا نقداً محضاً للأسئلة الموضوعية، فأدبيات القياس والتقويم التربوي تنصفها بالثناء مع شرط جودة التطبيق وهو علم وفن يوازي فنيات طرائق التدريس ذاتها وقلّ من يتقنه حقيقة.
وقد فاقم من المشكلة انتشار ظاهرة طرائق التدليس.. فما هي يا ترى؟
بعد هذه المرحلة جاءت مرحلة رسم صياغة النتائج مسبقاً، حيث يعمد المعلم إلى شحن التدريس بأسئلة معينة لا تخرج أسئلة الاختبارات عنها، مما يجعل الطلاب يقتصرون على دراسة تلك الأسئلة دون غيرها، فتتقلص كمية المادة المدروسة إلى 60% وربما 30% من الأصل، ولا أدّعي أن هذا بسبب حذف المعلم لبعض الموضوعات (وهو موجود أيضاً مع الأسف!!) ولكن من خلال تكييف طبيعة المادة بتلك الأسئلة بما يتوافق وهوى المعلم (وربما قدراته) وتنعيمها (أو ربما مسخها أحياناً) لا لتصبح في متناول الطلاب وإنما أقلّ من متناولهم بمراحل، فلا يكدون الذهن في دراستها ولا يحتاجون ساعات كثيرة للاستعداد، والنتيجة معروفة طبعاً: الطلاب سعداء والمعلم يحقق نتائج مبهرة بفضل جهوده في «التدليس» ومدير المدرسة راض والمشرف التربوي كذلك، فإن تكلف عناء التقصي لن يجعله الوقوف على المرض بطلاً في إدارة التعليم بل ستمر المسألة مر السحاب! ولهذا السبب انسحب كثير من المشرفين التربويين المخلصين من هذه المهمة إلى الأقسام الأخرى كالتطوير التربوي والتقويم الشامل (ومؤخراً وحدات تطوير المدارس) إلى آخر هذه المسميات التعويضية، وبقيت ثلة المشرفين الذين ربما كان بعضهم يوماً ما جزءاً من النظام التدليسي شعروا بذلك أم لم يشعروا، ويستمر التدريس بطرق التدليس الحديثة التي ابتكرت لدينا ولم نحصل على براءة اختراع دولية لها مع الأسف.