في يوم السبت الموافق 18 -10-1437هـ قرأت نبأ أحزنني في بعض وسائل الاتصال فقلت مع الاعتذار لأحمد بن الحسين أبي الطيب:
طوى المسافات حتى جاءني خبر
فررت فيه بآمالي إلى الكذب
قرأت خبر وفاة الصديق الكريم والأخ الوفي والشهم العزيز د: عبد الرحمن بن عبد الله المقرن، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، فقلت: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله، وبعد تيقُّني من النبأ المحزن تذكرت قول الشاعر ابن عثيمين - رحمه الله - عندما قال:
وما لحال إلا مثل ما قال من مضى
وبالجملة الأمثال للناس تضرب
لكل اجتماع من خليلين فرقة
ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب
ومن هذه القصيدة أيضاً مما ينطبق على د: عبد الرحمن المقرن - رحمه الله - قول الشاعر:
فطوراً تراه منذراً ومحذرا
عواقب ما تجني الذنوب وتجلب
وطوراً بآلاء الإله مذكّرا
وطوراً إلى دار النعيم يرغب
من أكبر فواجع الدهر على الإنسان أن يفجع بصديق عزيز ولكن هنيئاً لمن إذا فقده أهله وأحبابه آنسه عمله الصالح،
ما أحد أكرم من مفرد
في قبره أعماله تؤنسه
منعماً في قبره في روضة
ليس كعبد قبره محبسه
ألا لا يحسبن الإحياء أنهم في هذه الدنيا معمّرون ولكنها آجال مضروبة وأيام معدودة ومدة ممدودة، فالعاقل يشغل فراغه بما يفيده وينفعه
يا غافلاً والموت يطلبه أما
فكرت فيما تمضي الساعات
أقبل على الرحمن واطلب عفوه
فعسى المهيمن يغفر الزلات
العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي لرب وإنا على فراقك يا أبا عبد الله لمحزونون.
رحم الله أبا عبد الله رحمة واسعة، فقد كان نموذجاً نادراً حتى ولو لم يتكلم كثيراً أو ينصح بلسانه، كان حريصاً على هداية الناس واستقامتهم يود أن لا يدخل النار أحد، يحب للناس الخير ويكره مساءتهم، يقوم بأعمال صالحة نافعة، منها ما يقتصر نفعه فيه على نفسه، ومنها ما هو متعدٍّ نفعه إلى غيره وذلك من توفيق الله تعالى له، فالله عز وجل هو الذي يوفق للعمل الصالح ويحببه إلى الإنسان، وذلك فضل من الله ونعمة قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }.
وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} قد يكون الإنسان صالحاً بنفسه حريصاً على النوافل من بر وصيام وصلاة وصدقة وعمرة وحج إلى غير ذلك ولكنه لا يولي الآخرين أي عناية ، وقد يكون الإنسان حريصاً على نفع غيره يسعى جاهداً للقيام بأمور يتعدى نفعها إلى الآخرين، وفي الوقت نفسه يكون مقصراً في إصلاح النفس وتزكيتها، ولكن أن يجمع بين تزكية النفس وإيصال النفع للآخرين، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، إن فقيدنا الغالي - رحمه الله - تنطبق عليه الحالتان كلاهما، وهذه حقيقة واضحة للعيان نحسبه كذلك والله حسيبنا وحسيبه ولا نزكي على الله أحداً.
ومما ينطبق على أخي أبي عبد الله ما قاله الشاعر:
عهدتك واعظاً في كل خطب
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
تشيعك القلوب وأنت فيها
حبيبا طاهرا عفّاً نقيا
ألا يا دار أين رفيق درب
أسائلها فما ردت عليا
لك الدعوات منا كل وقت
وما لاحت على الدنيا ثريا
فكم ناصحتنا حيا ولكن
أراك اليوم أوعظ منك حيا
أيها القارئ الكريم: كم كان أبو عبد الله - رحمه الله - يسعى لصالح جمعية تحفيظ القرآن الكريم عندما كان مديراً لجمعية البر، وبعد أن تركها وكثيراً ما كان يقدم لنا النصائح والتوجيهات، وهو الذي أشرف على مقر الجمعيتين جمعية البر وجمعية التحفيظ، ومن بُعد نظره أنه جعل القاعة بين الجمعيتين يستفيد منها الجميع.
لقد كنا نستفيد من آرائه ومقترحاته تجاه جمعية تحفيظ القرآن، وكأنه يتمثل قول الشاعر:
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهمّ شرق
فإذا كانت تهمه جمعية البر فهو يحرص على جمعية القرآن، ومن ذلك أنه كان يهتم بالطلاب يود أن يبذلوا أقصى جهودهم في تعلُّم كتاب الله عز وجل والعمل به، وكم كان يبدي استعداده للمساعدة في تعلُّم القرآن الكريم سواء عن طريق إدارة التعليم، فقد كان هو الرجل الثاني في الإدارة، أو عن طريق جمعية البر، وكنا في الجمعية لا نجد منه سوى التعاون التام والترحيب، كان فقيدنا يتصف بصفات حسنة، فمما كان يتصف به: حب الخير للغير وحب استقامة الناس، وكان يتألم إذا خالف أحد الشرع أو اقترف ما نهى الله عنه، ولاشك أن المسلم الذي يحس بهذا الإحساس ويشعر بذلك الشعور، سوف ينال من فضل الله ما لا يعلمه إلا الله ، ومن حبه الخير للناس إسهاماته في مجالات الخير كالصدقات وبذل المعروف وكف الأذى والنصح للمسلمين وحب الخير لهم، ذكر لي ذات يوم متحدثاً عن ضرورة تشجيع الناس على فعل الخير، قال في رمضان وفي مكة كنت أرد جميع ما يعطيني الآخرون وقت الإفطار من التمر لوجود التمور معي وهي من الأصناف الجيدة، يقول وكان رجل من أهل جدة قريباً مني يقوم هو الآخر بتفطير الناس، فقال لي أقترح أن لا ترد ما أعطيت خذه وتصدق به يكون لك هدية من صاحبه يؤجر عليها ويكون منك صدقة على الفقراء الذين لا يردون أي شيء يعطونه، وبهذه الطريقة يعم الخير ويحصل الثواب ويدخل السرور يقول - رحمه الله - فقلت لأبنائي بعد ذلك لا تردوا أي شيء تعطونه خذوه وأعطوه غيركم من حين ما تأخذونه.
ومن الصفات التي كان يتصف بها - رحمه الله -: الحرص على التربية الصالحة والأخلاق الفاضلة والاعتياد على الرجولة واحترام الناس وتقديرهم، فكان لا يرى أن يدعو الإنسان غيره في استراحة بعيداً عن الأولاد، ويقول إن دعوة الآخرين في المنزل تدريب للأبناء وتعويد لهم على الخدمة والجلوس مع الرجال وتلبية طلباتهم أثناء جلوسهم، ولاشك أن هذا الرأي له رصيد كبير من الصحة، ولكن الناس في الغالب اعتادوا على خلافه فالأبناء يدعون غيرهم في الاستراحة، والوالد يدعو غيره في الاستراحة وهكذا، حيث أصبحت الاستراحات هي المكان الذي يجتمع فيه الناس، وحتى يكون الإنسان موضوعياً فالكلفة في الاستراحات أقل وليس هناك ما يمنع من اتخاذها في نظري، ولكن المشكلة تكمن في إدمان الجلوس وترك المنازل ولاسيما في نهاية الأسبوع حيث تكون الإجازة الأسبوعية.
ومن صفاته - رحمه الله -: التشجيع والتحفيز على عمل الخير، فقد كان يتصل بي عندما تحصل جمعية القرآن على مركز متقدم أو تقيم حفلاً يسر به يتصل مهنئاً وداعياً وشاكراً، وكم يحتاج الناس إلى أن يتعاونوا على الخير ويشجع بعضهم بعضاً ولاسيما بالكلمة الطيبة، فإنها صدقة كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صفاته: الحرص على العبادة، وتلك الصفة يشهد بها الكثيرون فكان - رحمه الله - كثير الصيام كثير قراءة القرآن كثير السفر للعمرة طويل قيام الليل، وقد رافقته - رحمه الله - في بعض الأسفار، فكان ينسل من بين النائمين ليقوم بين يدي ربه راكعاً أو ساجداً.
ومن الصفات التي كان يتحلى بها صفة العفو والتسامح، فمهما أسيء إليه فإنه يصبر ويحلم ويلتمس العذر للمسيء ويكثر الدعاء له بظهر الغيب والاستغفار، وكأن لسان حاله يقول إنما سلط على ذلك الإنسان بسبب ذنب اقترفته أو تقصير مني في حق الله تعالى وتلك منقبة عظيمة لا تؤتى لكل أحد {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
ومن صفاته التي أراه متصفاً بها التألم لمصائب المسلمين، والتأثر بما يلاقونه في بعض الأماكن من التضييق والاضطهاد والظلم.
وكان له اهتمام بالمسلمين في الخارج بحسب إمكانه وقدرته فكان له جهد في سقي الماء عن طريق حفر الآبار في بعض البلاد الفقيرة، حيث يعجز السكان عن تكاليف حفر الآبار، بالإضافة إلى القيام بكفالة الدعاة ومعلمي القرآن.
ومن الأمور التي كانت تأخذ من تفكير الفقيد حيّزاً كبيراً ضرورة الكتابة بالتفصيل عن الرجال العظماء من أهالي محافظة الزلفي ولا سيما الذين كان لهم مشاركات مع الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - فإن الأجيال المعاصرة لا تعرفهم فضلاً عن التعرف على سيرهم وبطولاتهم، والذي يظهر أنه كتب شيئاً حول هذا الموضوع، ولكن ربما أن تفرغه للعبادة في أواخر حياته جعله لا يجد متسعاً من الوقت من أجل مواصلة الكتابة، ولاشك أن وجهة نظره - رحمه الله - صحيحة في ضرورة الكتابة عن هؤلاء العظماء وأمثالهم ممن كان لهم دور بارز في خدمة الوطن والمواطنين، فمن حقهم أن يعرفوا وأن يشاد بهم وأن ينوه بجهودهم وأعمالهم والأدوار التي كانوا يقومون بها وهذا أقل واجب الأجيال تجاههم.
وفي سنوات حياته الأخيرة منذ ما يزيد على عشر سنوات اتجه اتجاهاً قوياً لتفطير الصائمين في رمضان في مكة المكرمة، وكان يشتري تمراً كثيراً يقدر بالأطنان في كل عام ولا يكتفي بالتمر مع اختياره الأنواع الجيدة، فكان لديه آلة العجن ليعمل معجوناً من التمر خالٍ من النوى مخلوطاً بالمكسرات، وكان يخصص هذا المعجون للطائفين حول الكعبة والساعين بين الصفا والمروة حجم الواحدة من ذلك المعجون كبير، يقول لكي يشبع من يأكله، وسبب عدوله عن التمر في المطاف والمسعى لئلا ينشغل من تناول ذلك بالنوى وليسلم المكان ويكون نظيفاً، وفي الوقت نفسه كان يعمل معجوناً عادياً بحجم صغير يضعه على سفر الإفطار.
وكان يرى أن جلوس الإنسان في الحرم لقراءة القرآن شيء جميل والأجمل منه أن يصلي النافلة ليجمع بين أجر صلاة النافلة وأجر قراءة القرآن، فإذا تعب المصلي فبإمكانه أن يصلي على كرسي، إلا أنّ ذلك ولا شك بحاجة إلى صبر ومصابرة وتمرين وتدريب والناس مختلفون، فمنهم من يتلذذ بالعبادة ويسهل عليه أن يؤديها ومنهم من يجاهد نفسه ويرغمها على العبادة وكلاهما مأجور بإذن الله إلا أن الذي يتلذذ بالعبادة أفضل وأكثر أجراً.
كان طيلة شهر رمضان يأتي إلى الحرم آخر الليل ولا يعود إلى سكنه إلا بعد نهاية صلاة التراويح والتهجد، وفي العشر الأواخر كلها اعتكف في الحرم فبقي فيه ولم يخرج منه حتى نهاية الشهر.
كان أبو عبد الله ملء السمع والبصر لا يذكره أحد من معارفه أو ممن يتعاملون معه إلا و يثني عليه خيراً، وهذه بشارة تفرح وتسر وفرق عظيم بين من يذكر بخير ويدعي له بعد موته، وبين من لا يذكر أو يذكر بسوء نسأل الله السلامة والعافية، ذكر الناس للإنسان بعد موته بخير لا يتأتى ذلك لكل أحد من يذكر بخير بعد موته كأنه حي بين الناس، والفضل كله والحمد والثناء لله الناس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء.
وفي نهاية المطاف يسعدني أن أشكر الأخ الأستاذ عبد الله بن حمود المسعر، حيث أعطاني بعض المعلومات عن الفقيد الغالي والأستاذ عبد الله من أخص أصدقائه ومحبيه، وكان تأثره بفقده عظيماً جداً، وكأني به بعد انتقال أخيه وصديقه أبي عبد الله إلى الدار الآخرة ...
.. كأني به يتمثل قول الشاعر متمم بن نويرة عندما رثى أخاه مالكاً بقصيده ومنها قوله:
وكنا كند ماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فإن تكن الأيام فرّقن بيننا
فقد بان محموداً أخي حين ودّعا
وقد تمثلت بهذين البيتين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما مات أخوها عبد الرحمن .. رحم الله أبا عبد الله وجمعنا به في دار كرامته وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الرحمن بن محمد الحمد - رئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الزلفي