كَرُمَ أخي الأستاذ الجليل الدكتور محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح فأطلعني على رسالته لنيل درجة الدكتوراه, وهي جزء مهم من كتاب شيخ الحنابلة وإمامهم في القرن الخامس الهجري الإمام القاضي (أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء البغدادي المتوفى في عام 458هـ).
وهذا الجزء المهم من كتاب القاضي أبي يعلى: (من أول مسألة ترتيب الصلاة حتى نهاية مسألة لا تجب الجمعة على العبد).
ويتألف هذا الجزء المحقق لنيل شهادة الدكتوراه مع مقدمته من جزئين كبيرين في 1174صفحة.
إن صديقي الكريم الدكتور محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح عندما كَرُمَ وقدم إليَّ نسخة من رسالته المهمة تلك بل تكاد تكون الفريدة بالأهمية البالغة في مذهبنا الحنبلي أنه كمن أعاد إلي فترة من شبابي أيام طلب العلم ولياليه في الجامع وقرب ركب مشايخنا العظام الذين يأتي في مقدمتهم شيخنا الجليل عبد الله بن محمد بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقاً، والشيخ صالح بن إبراهيم كريديس، والشيخ صالح بن عبد الله السكيتي قاضي المذنب سابقاً، ثم المدرس في المعهد العلمي في بريدة, والشيخ صالح بن أحمد الخريصي رئيس محاكم بريدة سابقاً.
بما في تلك الفترة من طلبي العلم من أوقات السرور والإحساس بالنعيم الروحي عندما كنا نقرأ في فقه أئمة المذهب الحنبلي، ونبحث أقوال العلماء واجتهاداتهم في المسائل الفقهية النوازل ومن المسائل العلمية الافتراضية.
إذ كان من بين من يتردد اسمه في تلك البحوث الإمام القاضي (أبو يعلى) شيخ الحنابلة في وقته، وكان بي ميل خاص لا أدري مبعثه آنذاك لأتتبع اختيارات القاضي أبي يعلى رغم كثرة اختياراته وبحثه للمسائل العميقة في الفقه الحنبلي حتى أطلق عليه فقهاؤنا (شيخ الحنابلة).
ولم تقتصر أهمية القاضي أبي يعلى في علمه وبحثه الذي عثرنا نحن المتأخرين منه على هذا الكتاب العظيم: (التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة).
وليس ذلك فحسب، بل إنني عرفت القاضي أبا يعلى من كون ابنه أبي الحسين قد صنف أول كتاب طبع واطلعنا عليه في موضوع طبقات الحنابلة، وقد طبع كتاب ابنه هذا بعنوان: (طبقات الحنابلة) أمر بطبعه الملك المؤسس الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود رحمه الله.
وقد توفي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في عام 526هـ قتله اللصوص في بيته. وبقي علمه الذي خلفه ومنه كتاب: (طبقات الحنابلة).
وقد عنيت أشد العناية بذلك الكتاب من باب ما ذكرته في دراسة كتب الحنابلة والحرص على الاطلاع على تراجمهم وآثارهم العلمية.
ومن باب آخر، وهو أنني كنت نقلت نسخة لي من كتاب الإمام الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة الذي جعله ذيلاً على طبقات كتاب أبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى.
ويقع في مجلدين، وقد كتبته بخطي قبل أن يطبع هذا الكتاب, وهو «الذيل على طبقات الحنابلة» لابن رجب كما اشتهر بهذا الاسم.
والنسخة المخطوطة التي نقلت عنها (طبقات ابن رجب) بخطي هي من الكتب النفيسة التي أحضرها من الشام إلى بريدة قاضي بريدة الكبير الشيخ سليمان بن علي المقبل المتوفى عام 1304هـ، وكانت من ضمن كتب نفيسة من كتب الحنابلة المخطوطة التي كان من بينها جزء من شرح عمدة الفقه لشيخ الإسلام ابن تيمية مكتوب في حياة الإمام ابن القيم أظن تاريخ كتابته كان في عام 738هـ.
وجزء آخر من شرح عمدة الفقه لشيخ الإسلام ابن تيمية بخط أحد كبار الحنابلة في وقته (أبي بكر الجراعي) وقد فرغ من كتابة ذلك الجزء في عام 850هـ.
وأكرر القول بأنني نقلت تلك النسخة من طبقات ابن رجب الواقعة في مجلدين محبة في أن تكون لدي نسخة من ذلك المخطوط النفيس آنذاك أي: قبل أن يطبع.
وقد آلت تلك النسخة إلى صديقي الكبير الشيخ فهد بن عبيد آل عبد المحسن واستعارها منه الشيخ القاضي علي بن إبراهيم المشيقح الذي كان شغل الوظيفة مساعد رئيس محاكم القصيم، فنقل منها نسخة بخطه في مجلدين وذلك كله قبل أن يطبع طبقات ابن رجب.
ونتيجة لذلك صار اسم القاضي أبي يعلى يتردد أمام عيني في هذه الدراسة لنيل الدكتوراه في تحقيق جزء مهم من كتابه العظيم (التعليق الكبير) كما صارت تتردد أمام عيني أسماء كبار الحنابلة من العلماء القدماء أمثال أبي الخطاب الكلوذاني وأبي الوفاء ابن عقيل صاحب كتاب الفنون وغيرهما عشرات العلماء والكبار الذين استفاد الناس من دراسة علومهم ومؤلفاتهم على الدهر.
وقد لذَّتْ لي قراءة تحقيق أخينا وصديقنا الدكتور محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح لكونها بحثاً علمياً عميقاً يتناول هذا الجزء المهم من كتاب القاضي أبي يعلى ويوضح آراء كبار الفقهاء ليس في المذهب الحنبلي فقط، وإنما في المذاهب الأخرى للمقارنة ومعرفة من هم أسعد بالدليل في المسائل الفقهية في الفروع.
وعمل الدكتور محمد بن فهد الفريح في هذا الكتاب عظيمٌ, شرحه المؤلف الدكتور الفريح، ونقلنا تلخيصاً له حكاية عما ذكره المؤلف الكريم، قال:
(خطة البحث:
وتشتمل على قسمين:
أولا: هو القسم الدراسي ويتضمن بيان المنهج المتبع في التحقيق.
ثانياً: التمهيد : وقد جعلته في فصلين:
الفصل الأول: التعريف بالمؤلف, يعني القاضي أبا يعلى: اسمه, ونسبه, ومولده, وكنيته, ولقبه, ثم آثاره العلمية ومصنفاته.
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب, وفيه مباحث :
المبحث الأول: التعريف بكتاب التعليق الكبير, وتوثيق نسبته إلى المؤلف.
المبحث الثاني: إثبات أن هذا الكتاب هو التعليق الكبير.
المبحث الثالث:وصف النسخة المخطوطة للكتاب.
المبحث الرابع: بيان منهج المؤلف في هذا الكتاب.
المبحث الخامس: مصادر الكتاب.
المبحث السادس: ذكر محاسن الكتاب.
ثالثاً : منهج التحقيق, ذكر فيه المحقق من بين ما ذكر ما يلي:
أولاً: إخراج نص الكتاب على أقرب صورة وضعه عليها المؤلف.
قال الباحث الدكتور الفريح: أُثبتُ ما قد يسقط من الحروف أو الكلمات من الأصل في الصلب بين حاصرتين هكذا [ ]، وأوجه ذلك في الهامش, وأشير إلى ما يعزز ذلك من المصادر والمراجع.
أعجمتُ ما أهمله المؤلف من الكلمات، دون الإشارة إلى ذلك.
ثانياً: وثّقت الآراء التي ذكرها المؤلف من مصادرها, وأشرت لما أغفله المؤلف منها.
ثالثاً: خرّجت الأحاديث الواردة في الكتاب، بنقل حكم أهل الفن عليها - ما لم تكن في الصحيحين أو أحدهما.
رابعاً: خرّجت الآثار الواردة في الكتاب.
خامساً: شرحت المفردات الفقهية، والأصولية، والحديثية الغريبة, التي وردت فيه.
سادساً: وضعت الفهارس العامة للكتاب.
قال الباحث الدكتور محمد الفريح:
(القسم الثاني : النص المحقق .
وليعلم القارئ الكريم أن هذا التحقيق قد أخذ من الجهد الذهني والبدني الشيء الكثير (ولا تظن أنه مجردُ نقلٍ من ورقٍ بالٍ عتيق إلى ورقٍ أبيضَ صقيل) وقد كنت أظن - وبعض الظن ليس بإثم- أن الأمر أسهل من ذلك حتى دخلتُ في البحر فعلمتُ صدقَ مقولةِ الجاحظ: (أن إنشاء عشرِ ورقاتٍ من حر اللفظ, وشريفِ المعاني, أيسر من إتمام النقص حتى يردَّه إلى موضعه من اتصال الكلام).
فليست قراءةُ المخطوط بالأمر الهين حتى من كانت له دربة, تُعْجِزه بعضُ الكلمات فتمضي عليه الساعات في طلب صحة لفظها واستقامة حرفها حتى ينبلج الفجر فيهتدي لقراءتها فيصيرَ قرير العين أو يرجعَ بخفي حنين).
وقد صدق المؤلف الكريم محمد بن فهد الفريح إذا بدأ بترجمة حافلة للإمام القاضي أبي يعلى استغرقت من ص 11 حتى ص 36.
ثم انتقل إلى الكلام على كتاب التعليق الذي حقق هنا جزءاً منه وصحة نسبة هذا الكتاب إلى القاضي أبي يعلى.
ثم وصف النسخة المخطوطة من الكتاب.
وانتقل بذلك إلى الكلام على (النص المحقق) واستغرق 1174 صفحة، وعمله مجهود علمي ضخم إلى جانب كونه عميق الفائدة تطرق إلى عدد كبير، بل تطرق أكثره إلى مسائل مهمة من النوازل، ومن المسائل الافتراضية.
فاستحق الأستاذ الكريم الدكتور محمد بن فهد بن عبد العرير الفريح الشكر العظيم عليه من الباحثين المدققين, ومن طلبة العلم المستفيدين، ونسأل الله تعالى أن يجزل له الأجر والثواب على ذلك.
والله الموفِّق.
ملحوظة: كتبتُ هذا من واقع الرسالة التي طبعت على الآلة الكاتبة في مجلدين كبيرين, وذلك قبل أن يطبعها المؤلف في أربعة مجلدات طباعة حديثة فاخرة.
- محمد بن ناصر العبودي